5 دقائق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الوسطية منهج الإسلام، وشعار أهله، وإرادة الله تعالى الشرعية من عباده المؤمنين، فيها يتنافس الأتقياء، ويتقرب بها إلى الله تعالى الأولياء والأصفياء، فمن اتصف بها نال ثناء الله تعالى الكبير، ومن حاد عنها كان ذميماً غير قدير، يقول الله تعالى في شأنها وشأن المتحلين بها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا} أي خياراً عدولاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وهذا امتنان عظيم من ذي المنة والعظمة سبحانه وتعالى، على هذه الأمة المرحومة، أمة سيد الخلق، وحبيب الحق، وشفيع الأمة، سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بيّن سبحانه سر اختياره الوسطية لهذه الأمة، وهو أن تكون شاهدة على الأمم، بأن رسالات الله قد بلغتهم، فكان حق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به أحداً، فلا يتخذوا معه نداً ولا ولداً، وأن يستقيموا على منهجه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الإسلام الذي وصّى به إبراهيم وموسى وعيسى أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، الإسلام الذي يعني الاستسلام لله رب العالمين،

يشهدون عليهم بأنهم تركوا ذلك المنهج الرباني، والعدل القرآني، إلى الأهواء المضلة، فتفرقت بهم السبل عن سبيل الحق.

أما هذه الأمة، فلم تبعد عن الهدى وإن تفرقت كلمات أهلها، وتوزعت رغبات دولها، وتعددت نزعات شعوبها، فإنه يبقى معها قاسم مشترك وهو الإيمان من غير تشريك، والإسلام من غير تخليط، والكتاب والسنة المصدران اللذان يصدر عنهما كل مؤمن، فمنهما يتعلم، ووسطية السياسة فلا تفريط في حق الأمة ولا تركها من غير قوة، ووسطية الحضارة فلا حضارة بغير قيم ولا قيم من غير قانون، ووسطية القانون فلا حزم من غير لين ولا لين من غير قوة... هذه الوسطية التي هي صفة أمة الإسلام، وصفة الإسلام نفسه الذي قال الله تعالى عنه {ذَلِكَ الدينُ الْقَيمُ}، أي المائل عن الأديان الباطلة، الإسلام الذي أمرنا أن نفاخر به ونقول {قُلْ إِننِي هَدَانِي رَبي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين. قُلْ إِن صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَب الْعَالَمِين. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَولُ الْمُسْلِمِينَ}، وقد كان من وسطية هذا الدين أنه جاء ليحقق رغبات الروح في الإيمانيات والروحانيات، ومتطلبات الجسد، فلم يمنعه مما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة، بنظر الشرع، لا بنظر البشر قاصري النظر، ولم يوجب عليه ما يعجز عن أدائه، أو فيه كلفة غير معتادة، فتراه يوجب العبادة ولكنه ييسر سبل أدائها، ويحرّم المعصية، ولكنه يرفع قلم التكليف عند الضرورة الملجئة إليها، بطريقة تقديم الضرورات وترتيب الأولويات للحفاظ على الكليات، فهذه هي الوسطية المطلوبة المرغوبة، لا ما يُدعى فيها من تقديم الأهواء وتحقيق الرغبات، عبر ترك المفترضات والتهاون بالطاعات، فمن ادعى الوسطية وهو لا يعير الأوامر والنواهي اهتماماً، ولا يرى للتدين ضرورة، ولا للكليات اعتباراً.. فما هو إلا دعيٌ فيها، وكيف تقبل دعوى من لم تكن الطاعة شعاره، ولا الأخلاق دثاره؟! اللهم إلا في زمان نكست أحواله.. صار فيه الوجه في حد القفا..
والله المستعان.

❊ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دبي

تويتر