ذاكرة الاتحاد

الانسحاب البريطاني من المنطقة هيّأ الأجواء لإقامة الاتحاد

الأحداث التي هيأت الأجواء لتأسيس «دولة الإمارات العربية المتحدة»، جرى بعضها على مسرح السياسات المحلية البريطانية، فقد كان أعضاء حزب العمّال البريطاني لسنوات عديدة ينتقدون بشدّة الزيادة السنوية في الإنفاق على شؤون الدفاع، فتعهّدت حكومة العمّال برئاسة هارولد ويسلون بتخفيض مخصصات هذا البند من الإنفاق، وفي تقرير حكومي رسمي أطلق عليه اسم «الكتاب الأبيض» نشر في فبراير عام ،1967 تم اقتراح المزيد من التخفيضات، وكان من أبرز انعكاسات تلك السياسة تصفية جميع القواعد العسكرية تقريباً شرقي السويس، وسحب عشرات الآلاف من العسكريين وأفراد عائلاتهم، وتقضي إحدى مراحل هذا المخطّط بأن يتم سحب جميع القوات البريطانية من جنوب شبه الجزيرة العربية بحلول عام ،1968 بينما كان من المفترض أن تشكّل عدن وسائر المحميات البريطانية المرتبطة بها جنوبي اليمن، اتحاداً مستقلاً، إلا أن هذا التقرير الحكومي أو «الكتاب الأبيض» دعا إلى تقديم «مساعدة مالية سخية» لتعزيز القوات الاتحادية في جنوب شبه الجزيرة العربية. وتم وضع الترتيبات اللازمة لذلك، كما كانت الاستعدادات العملية جارية لزيادة عديد القوّات البريطانية المرابطة في الخليج، التي ستحتاج إلى بريطانيا لتنفيذ سائر التزاماتها في المنطقة بعد مغادرتها عدن.

غير أن المناظرة البرلمانية حول الدفاع أوضحت أن هذا التغيير الجذري في دور بريطانيا في العالم، لم يكن يرضي عدداً كبيراً من أعضاء البرلمان من حزب العمّال الذين كانوا مصممين على تسريع الانسحاب، لهذا تم اعتبار تخفيض عدد القوات في الخليج أمراً بديهياً أيضاً.

وبحلول شهر مايو 1967 كانت الحكومة البريطانية تفكّر جدياً في الانسحاب من دول الخليج وعدن أيضاً، وقد انتقد الملك فيصل، عاهل المملكة العربية السعودية الراحل، بشدّة هذه التوجهات خلال زيارة قام بها إلى لندن في منتصف مايو.

وإثر هبوط سعر صرف الجنيه الاسترليني في خريف ،1967 بات الانسحاب من شرق السويس أمراً لا مفر منه، لكن الحكومة البريطانية ظلّت مصممة على تنفيذ التزاماتها تجاه دول الخليج وفق المعاهدة، وفي نوفمبر عام 1967 قام الوزير في الخارجية البريطانية جورونوي روبرتس، بزيارة شاه إيران وحكّام الخليج، مؤكداً لهم استمرار الوجود العسكري البريطاني في مختلف القواعد التقليدية لضمان الاستقرار في منطقة الخليج، لكن رئيس الوزراء البريطاني أعلن من جانبه في خطاب ألقاه أمام مجلس العموم في يناير ،1968 عن تخفيض كبير جديد في الإنفاق وعن التصميم على الانسحاب كلياً مع نهاية عام ،1971 وقال «لقد قررنا أيضاً سحب قواتنا من الخليج في التاريخ نفسه». في غضون ذلك، في الشهر نفسه، عاد جورونوي روبرتس إلى الخليج لكي يبلغ مضيفيه المتشككين في الموقف الجديد.

وهكذا فقد أدّت السياسات البريطانية الداخلية وسياسات حزب العمّال إلى قيام هذا الوضع الجديد كلياً في دول الخليج.

آليات الانسحاب

انتاب الدبلوماسيون البريطانيون العاملون في منطقة الخليج وحكّامها على حد السواء، شعور بالقنوط والاحباط إزاء هذا القرار، وكان الحكّام قد عاشوا عقدين من الزمن تقلّب خلالهما موقف بريطانيا تجاههم من كونه متحفظاً وغير مبالٍ أحياناً، وعارضاً للقوة العسكرية أحياناً أخرى.

وجاء التطور الأخير في الوقت الذي كان فيه الحكّام يتطلعون إلى استثمار الثروة النفطية الجديدة، أما الدبلوماسيون الذين حاول العديد منهم جاهدين لسنوات تفهّم نمط حياة العرب، فقد كانوا في وضع لا يحسدون عليه، حيث كان يترتب عليهم توضيح دواعي خرق الحكومة البريطانية للاتفاقات المكتوبة والأعراف العربية غير المكتوبة والقائمة على الثقة والمودة، كما كان عليهم تعلّم آليات تسليم المسؤوليات العسكرية والسياسية والقانونية والإدارية، خصوصاً أنه لم تكن هناك في بعض الإمارات مؤسسات مناسبة لتولي تلك المسؤوليات. وكانت الحكومة البريطانية تأمل في نقل السيادة بسلاسة في مختلف الإمارات، على الرغم من قصر المدة المتاحة لتنفيذ برنامج الانسحاب، وكان البعض يعتقد أن الإضرابات المحلية تشكل في ذلك الوقت خطراً أكبر من حدوث خلل في ميزان القوى العالمي، ومن وصول الاتحاد السوفييتي إلى الخليج، وكان لابدّ من تسوية بعض النزاعات قبل أن تعلن الحكومة البريطانية أن الانسحاب لن يتسبب في إحداث التمزق الذي تنبأت به المعارضة في بريطانيا، وعدد من الأشخاص الذين يعرفون المنطقة جيداً.

وفي الأول من مارس 1971 قام وزير الخارجية البريطاني أليك دوغلاس هيوم، بإبلاغ مجلس العموم بأن بريطانيا قدمت للإمارات العربية في الخليج «معاهدة صداقة» لتحلّ محل معاهدات الدفاع القائمة، التي ستنتهي صلاحية العمل بموجبها في 31 ديسمبر .1971 وكان المحافظون خلال هذا الوقت يدرسون الانعكاسات العملية لرغبتهم في الاحتفاظ بالوجود العسكري البريطاني في القواعد الواقعة شرقي السويس، خصوصاً تلك الواقعة في الخليج، في غضون ذلك استدعى المقيم السياسي في الخليج وليام لوس، من عام 1961 وحتى عام ،1966 ليكون المستشار الخاص لوزير الخارجية البريطاني. وتم في الوقت نفسه الإعلان عن تعيين جفري آرثر سفير بريطانيا في الكويت عام .1968 وكان وليام لوس أيدّ في الماضي فكرة انسحاب بريطانيا من الخليج، وأمضى خمسة أسابيع في عام 1970 أجرى فيها مناقشات مع زعماء كلّ الدول الواقعة على الخليج وبعض الدول العربية.

المصدر: من الإمارات المتصالحة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، فراوكه هيرد ــ باي

تويتر