الإثبات بالطرق العلمية لا يقبل إلا إذا ثبت الفراش

جدل قانوني حول رفض محاكم الاعتراف بالـ «دي إن إيه» لنفي النسب

تقرير البصمة الوراثية (دي إن إيه) يُعد دليلاً من أدلة الدعوى، وللمحكمة أن تأخذ به أو لا. أرشيفية

أثارت أحكام قضائية نهائية صدرت في الفترة الأخيرة بشأن عدم قبول دعاوى لنفي إثبات نسب أطفال لآباء رفضوا الاعتراف ببنوتهم لهؤلاء الأطفال جدلاً قانونياً، بسبب عدم اعتراف هذه الأحكام بنتائج تحاليل طبية عدة جزمت بعدم وجود صلة بنوة بين آباء وأطفال منسوبين إليهم، حيث قالت محكمة النقض في أحد أحكامها في هذا الصدد إن دعوى نفي النسب لا يمكن قبولها بعد أكثر من سبعة أيام من تاريخ علم الأب بالولادة في دعوى اللعان.

إقرار صريح

رفضت المحكمة دعوى نفي نسب، قال فيها المدعي إنه ظل مسجوناً لاتهامه في قضية عاماً كاملاً، وبعد خروجه من السجن توجه إلى مزرعة والده في المنطقة الغربية، ولم يغادرها لمدة تزيد على خمسة أشهر، فيما غادرت زوجته الدولة إلى السعودية أثناء ذلك. وبعد ستة أشهر، فوجئ بأنها وضعت ولداً في مستشفى المفرق، فطلقها، وفتحت طليقته ضده بلاغاً في إدارة الدعم الاجتماعي تطالبه فيه باستخراج الأوراق الثبوتية للولد ودفع نفقته وتكاليف ولادتها، واستجابت أخته لمطالبها بموجب وكالة عامة منه من دون علمه.

ورفضت المحكمة طلبه إجراء التحاليل الطبية وتحاليل البصمة الوراثية لإثبات النسب، وقالت إنه لم يثبت بشكل قاطع عدم التلاقي بينه وبين طليقته، خلال فترة ما قبل الحمل التي تلت خروجه من السجن.

وأضافت أنه «إذا ثبت النسب شرعاً، فلا تسمع الدعوى بنفيه. وبما أن الطاعن سبق وتعهد بدفع نفقة الولد، وتكاليف الولادة، لمطلقته، وإثبات حضانتها للولد، والتزامه بإصدار شهادة ميلاده وجواز سفره وبطاقته الصحية، فإن ذلك يعد إقراراً صريحاً بأنه ابنه. كما أنه لم ينف النسب عن طريق اللعان المستوفي للشروط، حيث اشترط القانون والفقه لرفع دعوى نفي النسب مدة معينة، وهي سبعة أيام من تاريخ العلم بالولادة، شريطة ألا يكون قد اعترف بأبوته له صراحة أو ضمناً، في حين أن الطاعن خلال الفترة من ولادة الولد حتى تاريخ إقامة الدعوى - أي أكثر من شهرين - لم يقدم أي طعن قانوني في نسب الولد إليه، ما يترتب عليه أن نسب الولد لاحق شرعاً به بالفراش، رافضة طلب نفيه عن طريق إجراء تحاليل البصمة الوراثية».

وأفاد المحامي عبدالله الحمداني، بأن كثيراً من أحكام محكمة النقض تواترت على رفض مثل تلك الدعاوى إعمالاً لسلطة المحكمة باعتبار أنها الخبير الأعلى في الدعوى، وأن تقرير البصمة الوراثية (دي إن إيه) يُعد دليلاً من أدلة الدعوى، لها أن تأخذ به أو لا، مضيفاً أن «ذلك وإن كان صحيحاً من حيث الشكل، إلا أنه يخالف الثوابت القانونية المعمول بها، حيث إن المحكمة ملزمة بأن تقدّم ما يفيد بأنها وازنت بين أدلة الدعوى القانونية والواقعية، وأنها أحاطت بكل عناصر الدعوى عن بصر وبصيرة تكفي لحمل قضائها، وتطمئن المطلع أنها بذلت كل ما في وسعها وصولاً الى وجه الحق في الدعوى، فكيف يمكن قبول أن يأتي تقرير البصمة الوراثية ليؤكد أن ذلك الولد لا ينسب لأبيه، وعلى الرغم من ذلك تثبته المحكمة إليه»، مضيفاً أن المادة 89 من قانون الأحوال الشخصية نصت على أنه يثبت النسب بالفراش أو بالإقرار أو بالبينة أو بالطرق العلمية إذا ثبت الفراش، حيث حدّد النص أن الإثبات بالطرق العلمية لا يقبل إلا إذا ثبت الفراش، وهو العلاقة الزوجية، فإن لم يكن هناك زواج فلا يقبل الإثبات بالطرق العلمية، وكذلك لا يثبت النسب، حتى لو كان صحيحاً، إذا لم تكن هناك علاقة زوجية، لأن الابن يعتبر ولد زنا، وذلك لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وأوضح الحمداني أنه «في ظل التقدّم الطبي الهائل في الآونة الأخيرة، خصوصاً في مثل هذه الأمور، بحيث لا تقبل الشك، يجب أن يكون إثبات النسب في حال الاختلاف والنزاع عن طريق التحليل الطبي، وهو الأمر الأقرب إلى المنطق والعقل، فكما كانت هناك قاعدة فقهية تقرر بأن النسب يحال في إثباته، فهناك أيضاً قاعدة فقهية تقرر أن النسب يحتاط في إثباته، ما يعني لزوم الاحتياط في إثباته، وذلك بسبب ما قد يترتب عليه، فقد يتزوج أحدهم شقيقته لإثبات نسبه على غير أبيه الحقيقي، وقد يرث أحدهم ميراث غيره، وقد يحرم أحدهم ميراث أبيه الذي لم يثبت نسبه إليه، وجميع هذه القضايا يمكن حلها بسهولة عن طريق البصمة الوراثية، إلا أن كثيراً من المحاكم اتجهت إلى رفض كثير من تلك الدعاوى، ورفضت إجراء ذلك التحليل استناداً إلى القاعدة الأولى من دون الأخذ بالقاعدة الثانية، التي هي أقرب إلى الصواب في وقتنا الحاضر».

ورأى المستشار القانوني إبراهيم الخوري أن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط واضحة في مثل هذه المسائل، ونقلها قانون الأحوال الشخصية، بحيث تحافظ على القواعد الاجتماعية وتضع الفرد في عين اهتمامها، مؤكداً أن هناك كثيراً من القضايا التي يطلبون فيها كمحامين عدم قبول دعاوى نفي النسب، لأن الشريعة الإسلامية حددت سبعة أيام فقط يسمح فيها للزوج بالطعن باللعان ونفي نسب الولد الذي أنجبته زوجته، فإذا لم يقدم على الطعن خلال هذه المدة، فإن ذلك يعتبر اعترافاً منه بالبنوة، مشيراً إلى أن «المحاكم تضع في اعتبارها مصلحة الطفل كإنسان له الحق في الاسم والجنسية والأوراق الثبوتية، ولا يمكن ترك مستقبله معلقاً بنتيجة تحليل قد يحتمل الصواب والخطأ».

وأكد المستشار القانوني يوسف محمود، أن «للمحكمة تقدير كل حالة قانونية والحكم عليها، مع الأخذ في الاعتبار الضوابط القانونية والشرعية كافة»، رافضاً إسقاط حق المحكمة في عدم الاعتداد بنتيجة التحاليل، أو إلزامها باعتماد هذه التحاليل كقرينة وحيدة. وقال إن «هناك أحكاماً قضائية نهائية صادرة عن المحكمة الاتحادية العليا، تشير إلى عدم التزام المحكمة بالأخذ بنتائج فحص البصـمة الوراثية في إثبات أو نفي نسب الأطفال، باعتبار أن تلك النتائج لا تعدو أن تكون قرينة تقوم مقام الدليل، ويمكن دحضها إذا ما خالفت الضوابط الشرعية والعملية المقرر مراعاتها للأخذ بتلك النتائج، باعتبار أن المحكمة هي الخبير الأعلى في هذا الأمر، ومن سلطتها التامة فهم الواقع في الدعوى وتقدير أدلتها، ومنها نتائج فحص البصمة الوراثية ومطابقتها للواقع في الدعوى».

وعلى الرغم من أن البصمة الوراثية تعتبر من التقنيات الحديثة التي كشف عنها العلم الحديث، وتتصف بخاصية الدقة، إلا أن هناك شروطاً قانونية وشرعية للأخذ بها، من بينها ألا تخالف نتائجها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة النبوية، حتى لا يؤدي ذلك إلى إهمال النصوص الشرعية القطعية وجلب المفاسد، ولذلك فلا يجوز استخدامها في التشكيك في صحة الإنسان المستقرة، وزعزعة الثقة بين الأزواج، وألا تخالف تحاليل البصمة الوراثية العقل والمنطق.

من الحالات التي شهدتها المحاكم، رفض طعن تقدم به أب ضد زوجته يطلب فيه نفي نسب طفله بعد أن قادته المصادفة لإجراء تحاليل طبية للطفل أثناء علاجه، ليكتشف - من خلال نتائج التحاليل - استحالة أن يكون هو الأب البيولوجي للطفل.

وأشارت المحكمة إلى أن دعوى نفي النسب لابد أن ترفع خلال 30 يوماً من رفضه قبول نسب الطفل إليه، شرط ألا يكون اعترف بأبوته للطفل بأي شكل بعد الولادة، مثل تلقي التهنئة بولادته. وكان الأب قد أقام دعوى ضد زوجته طالباً نفي نسب ولده عنه. وأوضح في دعواه أن زوجته أنجبت مولوداً في أحد المستشفيات الكبرى، وتم تسليمه الطفل، وقيده باسمه واسم زوجته.

وبعد تعرّض الطفل لأزمة صحية وعرضه على أطباء، تبين أثناء إجراء الفحص الحيوي والبيولوجي له عدم مطابقة فصيلة دمه وجيناته الوراثية والأحماض الخاصة به لعينة دم والده.

وبسؤال زوجته، أكدت شكّها في نسب الطفل إليها، ما رجح حدوث خطأ من القائمين على العمل في المستشفى عند تسليم الطفل، وهو ما دفعه الى إقامة دعوى ضد المستشفى لإلزامه بتقديم كشوف المواليد خلال فترة ولادة زوجته، وعرض زوجته على اللجنة الطبية للتوصل إلى طفله الحقيقي، فأحالت المحكمة الزوجة والطفل للطب الشرعي لأخذ عينة من دمهما ومقارنتهما بدمه، إلا أن الزوجة رفضت الانصياع لأوامر المحكمة وإجراء التحاليل اللازمة، فقضت المحكمة بعدم اختصاصها وأحالتها إلى محكمة الأحوال الشخصية للاختصاص، التي أصدرت حكمها برفض الدعوى، فتقدم الأب بشكوى للجهات الشرطية لاستدعاء الزوجة لإجراء التحاليل اللازمة.

وكانت النتيجة أنه لا يمكن وراثياً أن يكون هو الأب البيولوجي للطفل، وليس هناك أيضاً ما يمنع وراثياً أن تكون المدعى عليها الأم البيولوجية للطفل. وقضت المحكمة بعدم جواز نظر الدعوى لسابق الفصل فيها. وفي النقض قالت المحكمة إن القانون وقبله الفقه اشترطا لرفع دعوى نفي النسب مدة معينة (سبعة أيام) شريطة ألا يكون اعترف بأبوته له صراحة أو ضمناً، وتقدم دعوى اللعان خلال 30 يوماً من تاريخ العلم بالولادة.

ولكنه لم يقدّم أي طعن قانوني في نسب الولد إليه طوال المدة السابقة (نحو تسع سنوات) ما يترتب عليه أن نسب الولد لاحق به شرعاً بالفراش، المتوافرة شروطه الشرعية كلها.

تويتر