نقطة حبر

سر الخلود

وُلد لأب يعمل في القضاء، تقياً ورعاً، حياته بين المسجد والمحكمة، لتكتسب نفس الفتى إباء ورثه من القاضي، وفطرة نقية غرسها الدين في وجدانه، نشأ وترعرع متنقلاً بين المدن التونسية، ليعلو شعره مسحة جمال تأصل بفعل بيئة لابد أن تترك بصمتها على من عاش في ظلها.. في هذا الجو المُلهم نشأ الشاعر المبدع أبوالقاسم الشابي.

رغم حياته القصيرة، ومرض قلبه الذي لم يمهله طويلاً، ليغادر الدنيا في الخامسة والعشرين من عمره؛ إلا أن إبداعه الشعري فاق في رصانته كثيراً من شعراء عصره، بدا ذلك في أعماله الشاهدة على نضج فكره، وخصوبة خياله، وعذوبة وجدانه.

ويبدو أن الحالة الصحية التي عاناها الشابي كان لها تأثير في إبداعه، كما أنَّ علم الشابي بمرض قلبه؛ جعله يكتب الشعر رغبة في الخلود؛ عوضاً عن حياته التي أيقن أنه لابد مفارقها، مؤمناً بدور الشعر الذي خُلق ليحيا، بما يحمل من عوامل البقاء وسر الخلود.

حاول الشابي في أشعاره البحث عن المطلق، عن النزعة الإنسانية في أسمى معانيها، عن خلود روحه بعد فناء جسده، تجلى ذلك في كل قصائده. إن قلبه المريض هو سر ألمه وشكواه، يقول في يومياته: «آه يا قلبي، أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية». وأنا أقول باطمئنان: إن قلب الشابي هو سر إبداعه وخلوده.

والمتتبع لحياة الشابي يجد أن أعماله التي هيأها لتخلد من بعده، هي ما كانت تشغله أكثر من مرضه؛ فقد سأله صديق عن حاله قبل أيام من موته؛ فأجاب: لست أخاف على نفسي، ولكني أخاف على.. وأخرج لفافة من قماش تضم بين ثناياها ديواناً له، إنه ديوان الحياة.

ولتحقيق غاية البقاء التي كان ينشدها الشابي؛ ظل يكتب ويبدع، ناسياً مرضه أو متناسياً؛ فساءت حالته المرضية، وضعف بدنه، وتقلبت به أحوال الحياة، ليتخذ مما سبق مصادر إلهام تدفعه للإبداع من دون توقف؛ مصارعاً الأيام التي كان يهزمها في كل جولة يُخرج فيها عملاً إلى نور الوجود، ليصرعه القدر مرتحلاً معه في النهاية؛ ليخلف تركة إبداعية تفوق في جودتها كثيراً من الكُتاب الذين طالت أعمارهم وهزل إنتاجهم الأدبي.

لقد كان الخلود شغل الشابي الشاغل، وقد أفلح في ما أراد واستطاع أن يكون بيننا حياً باقياً، يعلن فلسفته في الحياة ببساطة في العبارة، وغزارة في الفكر، وصدق في الإيحاء.

تويتر