نقطة حبر

على الجسر

خرج الجدُّ منفعلاً بالغيظ من الأب الذي يرفض استكمال تعليم ابنته في المرحلة الابتدائية، بدعوى أنها فتاة ومستقرها أولاً وأخيراً البيت؛ فلم يلتفت الجدُّ إلى دابة كانت تعبر الطريق مسرعة فألقت به على الأرض، فلم ينهض على ساقيه بعد ذلك قط!.. حملوه إلى البيت، ومضت شهور يطوفون به على أطباء، إلى أن انتهى به المطاف إلى فراشه، ليمضي ما بقي من سنوات عمره كسيحاً. وعاشت الفتاة معه محنته، وأرهقها الشعور بعقدة الذنب أنْ كانت السبب المباشر لتلك الإصابة، فلزمتْ غرفته لا تكاد تبرحها، حتى إذا حان افتتاح الدراسة، أصرَّ الجدُّ على ذهابها إليها، لا يبالي ما قد يلحق به من أذى، ولم يعترض الوالد الذي رق للشيخ الكسيح، وسكت على مضض حين أرسلها الجد إلى المدرسة، وكأنه كره أن يتصدى لمعارضة الأب في الرغبة الوحيدة التي تعلق بها، وزادته المحنة إصراراً عليها وتشبثاً بها.

وبدأ اتصال الفتاة بالصحافة والحياة بطريق غير مباشر، فلقد كانت الهواية الوحيدة للجد، بعد أن قيدته الحادثة إلى فراشه، أن يتتبع ما تنشره الصحف من أخبار، كما كانت مشغلته التفكير في إنقاذ مدينته من الموت الاقتصادي الذي يهددها بتراكم رواسب النيل عند مينائها في المصب على ساحل البحر. وكانت الفتاة تشتري الصحف لتقرأها له، ثم تجلس إليه في عطلة الأسبوع ليملي عليها شكاوى تعيد صياغتها بأسلوبها ليبعث بها إلى الحكام والصحف، في موضوع تعطل الميناء، وحوادث غرق السفن الشراعية أثناء عبورها، لكثرة ما تراكم في الميناء من رواسب.. وبهذا أحبت الفتاة الكتابة، وأرضاها أن تطالع في الصحف ما تكتبه تعبيراً عما كان الجد يمليه عليها، فمضت تتفنن في الأسلوب لتجويده قدر طاقتها..

وهكذا عبرت عائشة عبدالرحمن الجسر لترتبط حياتها بالتعليم والصحافة والثقافة، وتسبق عمرها لتجاوز القدر المكتوب لها من رؤى الصبا، ليمتد خيط غير مرئي بين الشوط الأول من شاطئ النهر وبين ما انتهى إليه طريقها العلمي الذي انتهت إليه فصارت.. بنت الشاطئ.

ولاتزال تدين بالفضل إلى جدها لأمها الذي تتبع آثار خطاها الأولى على درب التعليم قبل أن تبلغ سن العاشرة من عمرها. إنه لدرس للآباء والأمهات والمربين بضرورة تعهُد كوامن الإبداع لدى أبنائنا، فنكون بذلك سُرُجاً مضيئة في حياتهم تهديهم الطريق المخطوط لهم في لوح القدر، ليُفضِي بهم إلى الدرب الذي يجدون فيه ذواتهم.

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة الحصن

تويتر