نقطة حبر

«اقرأ يا أعمى!»

أُنبِئ الصبي أنه سيذهب إلى امتحان قُرر له، تمهيداً لانتقاله إلى مرحلة جديدة من مراحل كفاحه التعليمي الذي بدأه منذ صغره، وقد أُنبِئ أنه سيمتحن بعد ساعة؛ فخفق قلبه وَجَلاً، وسعى إلى مكان الامتحان، وجلس في زاوية خائفاً أشد الخوف، مضطرباً أشد الاضطراب، ولم يكد يدنو من الممتحنين حتى امتلأ قلبه حسرة وألماً، وثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط، فقد انتظر أن يفرغ الممتحنون من الطالب الذي معهم، وإذا هو يسمع أحدهم يدعوه بهذه الجملة التي وقعت من أذنه وقلبه أسوأ وقع: «أَقْبِل يا أعمى».

لم يكد يصدق أذنه، فقد تعود ممن حوله كثيراً من الرفق به وتجنباً لذكر إعاقته، وكان يقدر ذلك، وإن لم ينسها قط، ولم يُشغَل عن ذكرها، ومع ذلك فقد جلس أمام الممتحنين مجيباً عن كل ما وُجّه إليه من أسئلة، حتى قال له أحدهم: «انصرف يا أعمى.. فتح الله عليك». اختلطت في نفس الصبي مشاعر الفرح بمشاعر الحزن على إعاقة مازال الممتحن يُذكّره بها، فانصرف راضياً عن نجاحه، ساخطاً على ممتحنيه.

لم يزل طه حسين يذكر هذه القصة من طفولته، التي لم تكن كطفولة أقرانه، وفي زمن قلَّ فيه الوعي بذوي الإعاقة، حيث كُتب عليهم أن يسلكوا في الحياة مسلكاً محدداً ليكونوا مقرئين على المقابر، أو محفِّظين للقرآن. ويأبى طه حسين صاحب النفس المتمردة على هذا الواقع، إنه صاحب الشخصية التي كافحت لتدق لنفسها طريقاً مختلفاً يقوده لريادة الأدب العربي، كما احتفظ لنفسه بمكانة عالمية لم تزل تشهد بفكره وفلسفته وتميزه. وأظن أن طه حسين قد حوَّل رأسماله من حاسة هي الأساس في عملية التعلم، إلى جملة من المواهب التي سلَّحه القدر بها من ذكاء فطري، وعزيمة وقَّادَة، وسعي حثيث للقراءة والارتقاء. طلب إلى زوجته يوماً أن تبني من الورق ما يُجسد الطبيعة الجغرافية لبلاد اليونان، ومن ثَمَّ أخذت بيد زوجها وجعلت تمررها على هذا الورق لتبين له مواقع البحر، والأماكن التي تضيق حيناً وتتسع حيناً، ومازالت به حتى فهم ذلك حق الفهم؛ ليبهر طه حسين طلابه، فقد قرأ الطبيعة المجسدة بالورق قراءة قد يعجز عنها الأسوياء من الطلاب. يا مَنْ تمشي على الأرض بخطوات ثابتة، وتملأ صدرك بالهواء، وتمد بصرك إلى آفاق الكون، وتبصر عيناك أشعة الشمس، وتلتقط أذناك ما يموج به العالم من حراك الحياة.. إن حواسك الظاهرة تتضاءل بجوار رأسمالك الحقيقي، الذي استقر بين طيات نفسك.

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة الحصن

تويتر