نقطة حبر

منارات النِّعم

أرهق صاحبنا الكدح الفاشل، واضطربت نفسه تحت وطأة الأزمات التي عاناها، إلا أنه وعى من صور الحياة درساً أخذ بيده إلى النهاية المشرقة؛ فقد كان خلال عامين سابقين على تلك الحادثة يدير محلاً للبقالة، وباءت تجارته بالكساد، وفقد كل ما ادخره، واستدان ما يستلزم سبع سنوات من السداد، كما أغلق محل البقالة قبل الحادثة بأسبوع. وفي يوم الحادثة اتجه إلى مصرف ليقترض مالاً يعينه على السفر بحثاً عن عمل، وبينما هو يسير ذاهلاً شارداً يخامره اليأس وأوشك الإيمان أن يفارقه، إذ رأى رجلاً مبتور الساقين يريد أن يعبر الطريق، يجلس على عارضة خشبية مزودة بعجلات صغيرة، ويستعين على تسيير هذه العارضة بيديه اللتين أمسك بهما قطعتين من الخشب يستند بهما إلى الأرض ليدفع عربته إلى الأمام، وقد التقاه بعد أن عبر الشارع، بعد أن حاول جاهداً رفع خشبته التي يجلس عليها ليعتلي «الرصيف»، فلما أصبح فوقه أدار عارضته الصغيرة ليمضي في سبيله؛ فالتقت عيناهما وابتسم ابتسامة عريضة مشرقة، وقال: «أُسعدت صباحاً، إنه يوم جميل، أليس كذلك؟ تسمّر صاحبنا في مكانه يطالع الرجل ليدرك كم أنه واسع الغنى، ويكفي أن له ساقين، ويستطيع المشي! وخجل مما كان يستشعره من الرثاء لنفسه، وقال: إن كان هذا الرجل يستطيع أن يكون سعيداً مرحاً مع فَقْد ساقه؛ فأولى بي أن أستجمع هذه الصفات ولي ساقان». ثم توجه إلى المصرف وطلب النقود، وحصل على العمل، وتغيرت حياته للأبد.

إن ما أفسد حياة بعضنا ضيق النظر إلى منارات النِّعم التي بين أيدينا، فلو أدركنا الخير الذي أتيح لنا لكان لنا وللحياة شأن آخر، غير أن بعضنا يعشى عن ثروة الحياة والعافية التي يملكها ويعجز عن الانتفاع بها، ثم يبكي أماني هينة لم يحصل عليها، ولو حصل عليها لكانت بعض الواقع الثمين الذي يقدره حق قدره.

ولنضرب مثلاً، فلو دققنا النظر إلى مائدة طعامنا لوجدناها تحفل بألوان شتى؛ نأكل قمحاً فرنسياً، ولحماً إفريقياً، وفاكهة أميركية، ونشرب شراباً آسيوياً.. إنها حياة راقية ينبغي أن نعتز بها ونبصر الجمال فيها.

ما أغلى العافية التي تسري في أوصالنا، وما أثمن القوى التي زودنا الله بها، وما أشهى الثمار التي نقطفها لو أُحسن استغلالها. إن ثراء النِّعم التي أُسبغت علينا، لجديرة أن نغالي بحقها وحقيقتها، فإن الله لو ناقشنا الحساب عليها، وتقاضنا الوفاء بثمنها.. لعجزنا.

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية - جامعة الحصن

تويتر