نقطة حبر

اللبن المسكوب

دخل المعلم الفصل حاملاً زجاجة لبن، وضعها على طاولته، ثم طالع طلابه ليتأكد من أن أعينهم تراه، وقد تعالى الهمس بين الطلبة عن المعلم وزجاجة اللبن، وتساءلوا: ما علاقة اللبن بحصة اليوم؟ وفجأة ضرب المعلم الزجاجة بيده، لتسقط متناثرة، وانساب اللبن على الأرض. انعقدت أعين الطلاب وألسنتهم لما رأوا، وزاد تعجبهم عندما صاح المعلم قائلاً: لا تبكوا على اللبن المسكوب، ثم طفق يقول: تأملوا هذا المشهد جيداً ولا تنسوه مدى الحياة، تأملوا الزجاج المتناثر، واللبن الذي استوعبته الأرض، فمهما فعلنا، ومهما زاد حزننا وغضبنا، فلن تعود منه قطرة واحدة.

إن أحداث الماضي وتحليل أخطائه يمكن أن تمثل دروساً للحاضر والمستقبل، ولابد أن يتم ذلك دون حسرة أو ندامة تحاول أن تعيد الماضي، ولن تستطيع. إن كثيراً من الناس تجدهم وأكل القلق أرواحهم في اجترار أخطائهم، واسترجاع الماضي بأحلك أحداثه، وأذكر منهم زملاء كانت إذا أقبلت الامتحانات تدفقت شحنات القلق إليهم، مخلِّفة آلام المعدة، وقضم الأظافر، وحتى بعد انتهاء الامتحانات والنجاح والتفوق؛ نجدهم يسترجعون تلك الأوقات لتلاحقهم الأوجاع مرة أخرى، والطامة الكبرى لو مسهم فشل؛ تجد كلمات اللوم مسلطة لا تعرف الرحمة، أمثال: «لو بدلتُ»، «لو انتبهتُ»... وإذا ما صادفتهم سعادة ثابوا مرددين: «اللهم اجعله خيراً»،

وليس معنى ذلك التبلد وعدم المبالاة، لكن لابد ألا نكون أسرى الماضي، سجناء الخوف، عبيد القلق، بل نأخذ من الماضي العبرة والحكمة، ونمحو منه ما يجلب اليأس والإحباط، ونوظِّف القلق ليمثل الدافع الإيجابي للعمل بهمة ونشاط.

قرأت يوماً قصة تاجر كانت له عربات تنقل بضاعته عبر بلدان عدة، وقد كان يخشى حوادث الطرق على عرباته وبضاعته، حتى أصيب بقرحة المعدة، وعندما فحصه الطبيب قال له: مشكلتك في خوفك الدائم على تجارتك، والذي انتقل إلى جسدك، ثم سأله كم عربة استخدمت خلال العام الماضي؟ قال التاجر: نحو خمسة وعشرين ألف عربة، فسأله كم عربة منها تحطمت؟ فقال: خمس! فتعجب الطبيب قائلاً: وهل هذا يستدعي كل القلق الذي أمرضك، وقد يقضي عليك يوماً ما؟!

يقال إن الإنسان يمكن أن يعدِّل النتائج التي ترتبت على أمر ما إذا حاول خلال 180 ثانية، أما تغيير الزمن والأحداث، ماضيها وآتيها؛ فهذا من قبيل الإنشاء الذي لن يكون.

أحداث الماضي وتحليل أخطائه يمكن أن تمثل دروساً للحاضر والمستقبل، ولابد أن يتم ذلك دون حسرة أو ندامة تحاول أن تعيد الماضي.

عميد كلية الآداب والعلوم الاجتماعية ــ جامعة الحصن

تويتر