نقطة حبر

بصمات الكلمات

«ما أجدر هذا أن يكون كاتباً بعدُ»، طرقت هذه الكلمات أذن الفتى في صغره، فتمثلها حتى ملأت عليه كيانه، يعززها عشق للقراءة والاطلاع، ورغبة في التهام كل ما يقع في يده من كتب، انطلق بعدها مستهلاً حياته الأدبية وهو في التاسعة من عمره، وكانت أول قصيدة نظمها في حياته في مدح العلوم. ورغم أنه لم يزد في تعليمه على الابتدائية، إلا أن القراءة عوضت النقص التعليمي، لتصل معه إلى درجات ارتقى بها على متعلمي عصره ومثقفيه، كان ينفق كل ماله لشراء الكتب، ولما سئل عن عشقه للقراءة، قال: «لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة»، وبدأت رحلة الكتابة، في الأدب والثقافة والتاريخ والفلسفة والفكر والسياسة واللغة وغيرها، ما بين مقالات وكتب ذات قيمة واسعة ناهزت المائة كتاب، كما اشْتُهر بصالونه الأدبي كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبوه، يعرضون مسائل من العلم والأدب والتاريخ دون إعداد أو ترتيب، وإنما كانت تُطْرح عليه فيدلي فيها بدلوه.

إنه العبقري العملاق، عباس محمود العقاد، ابن كلمات قالها الإمام محمد عبده في زيارة لمدرسة العقاد، وحينما عرض معلمه دفتر إنشائه على الشيخ الإمام، وهو درس قوي للمعلمين والآباء مِنْ أنَّ كلمات الثناء تترك، على بساطتها، بصمات باقية وأثراً عظيماً كالذي حدث مع عملاق الكتابة العقاد، كما أن كلمات الإحباط والنقد، التي تهدم ولا تبني، تقود إلى وأد الإبداع في مهده، كما ينبغي على الآباء أن يشجعوا أبناءهم، لاسيما في بداية حياتهم، إذا ما أظهروا موهبة، ليمهدوا الدروب لإثراء تلك الموهبة.

تمتع العقاد بتركيبة نفسية فذة، جعلته يقبل التحدي في صغره، خصوصاً من معلم الرياضيات الذي كان دائم السخرية منه كلما جاء بحلول غير تقليدية للمسائل الحسابية، وظلت تلك المواجهات التي تهدف إلى إحباطه ترافقه في حياته، فأشار إلى ذلك بقوله: «لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك، لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم».

لقد كان العقاد نموذجاً للترقي الذاتي، وبناء الشخصية الثقافية التي وقفت في وجه الصعاب، ليغير مسار الحياة الثقافية والفكرية في عالمنا العربي.

تويتر