الحـدّاد يطالب بتــغيير الخطـاب الديـني

المسلمون في حاجة إلى تجديد الخطاب الديني بما يتناسب مع زماننا ووضعنا والعالم المفتوح الذي نعيش فيه. غيتي 

رفض كبير المفتين ومدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي الدكتور أحمد الحداد تدريس الثقافة الجنسية في المدارس، معتبراً أنها «مناداة للفحش، والتفاحش، والمجاهرة بالسوء» واصفاً إياها بـ«فوضى بهيمية إباحية» متسائلاً، وهل مثل هذا يحتاج إلى تعليم؟ مؤكداً أن هذه أمور غريزية في المرء لا تحتاج إلى تدريس، فمن الذي علّم الأجيال القديمة من آدم وحواء إلى اليوم؟، محذراً التربويين والمفكرين من السقوط في هذا المنزلق الخطر، حيث ورد في الحديث الشريف «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين»، كما أقرّ كبير المفتين بتقصير بعض رجال الأعمال في تأدية زكاة المال، مطالباً بتجديد الخطاب الديني بما يتناسب مع الزمان والمكان، مؤكداً أن الخطاب الديني لابد أن يكون متماشياً مع واقعنا، من غير تنازل عن ثوابت الدين.

 

وتفصيلاً أوضح الحداد لـ«الإمارات اليوم» أن «الأبناء والبنات في حاجة إلى تعليم الأحكام الشرعية المتعلقة بالطهارة، والمباشرة الزوجية من حيث الحل والحرمة، وما يترتب على ذلك من واجبات وحدود، بما هو معروف بأحكام الأحوال الأسرية أو الشخصية، ليكون أبناؤنا وبناتنا في غاية الصون والعفة، عازياً المناداة بتدريس الثقافة الجنسية في المجتمعات الإسلامية، بسبب ما ورد إليها من المجتمعات الإباحية التي تغص في أمراضها وأخطارها، معرباً عن  تخوفه من مجاراتهم في ذلك فيحيق بمجتمعاتنا ما حاق بهم.

 

وأشار إلى رواية الطبراني في معجمه الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خمس بخمس» قالوا: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» وهذا إنذار منه صلى الله عليه وسلم لأمته لئلا تقع في الخطر الذي هو نتيجة لفعل سيئ وهو بمثابة سنّة إلهية في قانون الأسباب والمسببات، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) فيجب الكفّ عن بحث هذه القضية تماماً لئلا يحيق بالأمة ما حاق بغييرها

 

التجديد والاجتهاد
وردّاً على الأصوات المطالبة بضرورة تجديد الخطاب الديني أوضح الحداد أننا اليوم في حاجة إلى تجديد الخطاب الديني بما يتناسب مع زماننا ووضعنا والعالم المفتوح الذي نعيش فيه، كما أن الإسلام لا يمنع أن يتجدد خطابه بحسب تغير أحواله، حيث إن للحرب خطاباً وللسلم خطاباً وللتعليم خطاباً وللترهيب خطاباً وللترغيب آخر، وقد قال علي كرّم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه: حدّثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم» فدلّ ذلك أن خطاب الداعية يتغير إذا اقتضى الحال، وهذا من المصالح المرعية في الإسلام، وتمت مناقشة هذا الموضوع كثيراً في المجامع والمؤتمرات ولم تختلف كلمة العلماء في أن الخطاب الديني متجدد بتجدد الزمان والمكان، إذ ليس من العقل أن أخاطب الناس في حال السلم كما أخاطبهم في حالة الحرب، أو أن أخاطب المسلم كما أخاطب غيره، أو أن أخاطب من أدعوه للإسلام كمن أتعامل معه في البيع والشراء، وكما قالوا إن لكل مقام مقالاً ولكل زمان رجالاً ولكل رجال أحوالاً، فليس من المنطق أن أتحدث عن ميكي ماوس «esuoM yekciM» على أنه الفأر الذي هو من الفواسق يقتل في الحل والحرم، فليس هذا منطقاً عقلانياً للدعاة المصلحين، بل هذا يؤدي إلى القول إن الدعاة لا يفهمون واقعهم، وإنهم جامدون على ماضيهم السحيق، فلابد أن يكون خطابنا متماشياً مع واقعنا، من غير تنازل عن ثوابت الدين، أو قواعده العامة أو أحكامه المحكمة، إنما الكلام كله على المسائل الاجتهادية التي تحتمل الأخذ والعطاء، والتي كان للسلف فيها نظائر، من أيام الخلافة الراشدة ما لا يجهله المثقف.

 

قضايا خلافيّة
وحول القضايا الخلافية التي طرحت على الساحة الإعلامية أخيراً، والتي أثارت جدلاً واسعاً بين العلماء مثل الفتاوى الداعية إلى قتل ملاك فضائيات، وجلد بعض الصحافيين والسماح بما يسمى زواج الوناسة وغيرها، واتهام البعض بأن الساحة الإعلامية تعاني من تخبّط واضح، رد الحداد قائلاً: «هذا لا يسمى تخبطاً، لكنها رؤى فكرية، ومشارب مذهبية، وكما يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: وكل إناء بالذي فيه ينضح، ولايزال العلماء يختلفون فيشدد هذا ويخفف ذاك،  فلا يعيب بعضهم على بعض، إذ: كلهم من رسول اللـــه ملتمس... غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم».

 

داعياً المسلمين إلى اتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم عند ظهور الخلاف حيث قال: «استفتِ قلبك، واستفتِ نفسك، البر ما اطمأنّ إليه القلب، واطمأنتْ إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك» لافتاً إلى أن هذا منهج النبوة للمسلم عند اختلاف الآراء وتشعبها، على أن مدارس الفتوى لا تتضارب، بل لكل وجهة هو موليها، فلا ينكر المتشدد على المتساهل إذا كان لكل مستنده ودليله، إنما ينكر ما كان عن هوى مجرد. وهذه الفتاوى المشار إليها قد يكون لها مستند فقهي لبعض أهل العلم، لكن طرحها غير مناسب، حيث إن للفتوى حيثيات واصطلاحات، قد يغيرها الزمان والمكان، وقد يتحكمان في بعض الفتاوى الاجتهادية كهذه المسائل، فقد تصلح في زمان دون زمان، أو مكان دون آخر، وهذا منهج متفق عليه. 

 

وأشار إلى أن هذه الفتاوى تدل على ما يعانيه المرء المسلم من الابتزاز النفسي من قبل تلك المحطات الانحلالية المنحطة التي ليس لها هدف نبيل، بل هدفها الإفساد الخلقي والإسفاف، فما من مسلم غيور إلا وهو يودّ التشفّي منها لما لم تحترم مشاعره كمسلم، وكإنسان له غرائز، وكحيي من الله ومن الناس، وكراعٍ عليه مسؤولية نحو بناته أو أخواته، وأبنائه وإخوانه، فمن الذي ينصفه منها، وكان على أصحاب هذه المحطات أن يحترموا مشاهديهم، فلا يبتزوا دينهم وأخلاقهم وعاداتهم، ولا يستفزّوهم بشيء، حتى لا يتجرأ الناس عليهم فما هذه الفتاوى إلا نفثات مصدور، وقد يكون لها صدى عند ضعاف النفوس فينفذونها، وهذا ما نحذر منه، فيساء للمسلم ويكال له الاتهام بما هو منه بريء.


الإرهاب
وفي ما يتعلق بالاتهامات التي وجهت إلى الإسلام والمسلمين كرعاة للإرهاب قال الحداد «الإرهاب يعرفه كل إنسان، وإن تكتم القانونيون أو السياسيون على تعريفه ليبقى مبهماً ليفسر تبعاً للأهواء والمصالح السياسية، أما تعريفه في الإسلام فهو الحرابة، التي تعني إخافة السبيل وقتل المؤمنين».

 

واستدرك: لا يشك أحد في أن من يقتل الأبرياء ويفجر الآمنين وينحر المسلمين ويروع الآمنين، كما يجري في بعض البلدان الإسلامية يخرج من مشكاة واحدة، سواء جرى بيد مدعي الإسلام أو متجاهر بالكفر، هو إرهاب، وكما قال صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حفظه الله تعالى: الإسلام إسلام والإجرام إجرام، وليس هناك دين حارب الإرهاب كما حاربه الإسلام. فقد نزل فيه حكم رباني في محكم الآيات القرآنية، يقول فيها الحق سبحانه: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدلانْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

 

 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، فهذا هو حكم الإرهاب في الإسلام وطبّقه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في قصة العرنيين، يوم أن أخافوا السبيل وقتلوا النفس البريئة، وكم جرى للمسلمين من ظلم وإرهاب من يوم بزوغ فجر الإسلام حيث أخرج المسلمون من ديارهم وأموالهم، بعد أن حوصروا وقوطعوا، مشيراً إلى أن التاريخ مازال يعيد نفسه إلى اليوم، ومع ذلك لم يفعل المسلمون شيئاً لرد العدوان عليهم لضعفهم كما هو حال وأضاف الحداد أن «وصف المسلمين أو الإسلام بالإرهاب به ظلم جائر يجب على من يطلقه كذلك أن يتحرر من التبعية والعصبية ليتكلم بالحقيقة، ومع ذلك لا ينكر الإسلام أن يخرج من أبنائه من تكون لديه نزعة إرهابية كما فعلت الخوارج في الصدر الأول يوم أن قتلوا الركّع السجود، وبقروا بطون الحوامل وأخافوا سبيل المؤمنين،

 

 وكثير من زعماء المسلمين ابتداءً من الخلفاء الراشدين كانوا ضحية له، فهل كان أولئك من المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي في آخر الزمان قوم، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لايجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة»، فهذا هو الوصف النبوي لهم فلم يسمّهم مسلمين وإن سمّوا أنفسهم به، كما بين الإسلام حكمهم بآية الحرابة الآنفة الذكر، وسواء ادّعوا الإسلام أم الكفر فإن الحكم على الأفعال لا على الأقوال


تقصير الأثرياء 
أقرّ كبير المفتين ومدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي الدكتور أحمد الحداد بأن بعض رجال الأعمال الأثرياء مقصرون في تأدية زكاة المال مشيراً إلى أن «الأمر ليس اتهاماً بل هي حقيقة يظهرها الواقع الماثل، حيث نرى الثراء الكبير مع ما نراه من الفقر المرير، ليس في مجتمعنا فحسب، بل في كل المجتمعات والدول الإسلامية» موضحاً أن الله فرض الزكاة على الأغنياء لسد حاجة الفقراء، كما قال صلى الله عليه وسلم : «تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم».

 

وقال الحداد «لو أحصينا الفقراء في الدولة لوجدناهم شريحة كبيرة» متسائلاً «لماذا نحوجهم للمؤسسات الاجتماعية ليذلوا ويتعبوا مع أن لهم حقاً معلوماً في الأوعية الزكوية لدى إخوانهم الأغنياء؟ مؤكداً أنهم لو أخرجوا هذا الحق ما بقي فقير في الدولة، بل لانقلب الفقراء المستحقون إلى أغنياء مزكّين، ومن ثم تضيق ساحة الفقر في البلد وتنتقل الزكاة إلى البلاد الأخرى من بلاد المسلمين، كما كان يفعل السلف، فقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه بعث إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه بثلث الصدقة التي أخذها من أهل اليمن، فأنكر ذلك عمر، وقال : «لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردّها على فقرائهم».

 

فقال معاذ : «ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني». فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل، فقال معاذ : «ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً»، مشيراً إلى أن هذه وظيفة الزكاة في المجتمعات الإسلامية. وتابع الحداد أن إحصائيات عامنا الماضي أظهرت الفجوة الكبيرة بين ما يجب إخراجه وما لا يخرج، وقد جاء عن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن تجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم، ألا وإن الله عزّ وجل يحاسبهم يوم القيامة حساباً شديداً، ثم يعذبهم عذاباً أليماً» كما رواه الطبراني في المعجم الصغير.
 
تويتر