التربية على القسوة

د. أحمد الإمام

            
سألني أحد الآباء عن السبيل لتربية ابنه البالغ من العمر أربع سنوات ليصبح قادراً على تحمّل القسوة، سواء كان مصدرها اشخاصاً يعتدون عليه، أو من طرف الظروف المستقبلية التي قد لا ترحم. أخبرني أنه اعتاد ضربه ومعاقبته عندما يوجهه للقيام ببعض المهام؛ إلا أن الطفل أصبح شديد الحساسية، كثير الفزع من الأصوات المرتفعة، خائفا من والده خاصة، وكذلك من الآخرين.

 

يستغرب الأب لأمر هذا الطفل الذي لا يستجيب لتوبيخاته، ويحيره أمره، كيف لا وهو يسعى لجعله رجلا صلب الطباع، قادرا على تحمل المحن، وكل أنواع القسوة كما بيـَّن الوالد ذلك.

 

واضح أن هذا الأب سيطرت على عقله تجاربه الماضية، وحاصرت مآسيه فؤاده، فلم تترك له فسحة لينعم بالتمـَلي بتفاصيل شخصية ابنه وجمالياتها؛ بل شُغل عنها باندفاعاته تحت وطأة القسوة التي تعرّض لها. ويبرّر لنفسه إخضاع الطفل الصغير لها، بدعوى أنه يقصد من جراء ذلك تربيته على القسوة، وتعويده عليها حتى يتمكن من تحملها. يغفل كثيرون ـ أو يتناسون ـ أن المهر الصغير لا يربونه على تدريبات شاقة قبل نضجه. ويعلم القائمون على تربية الخيول أن التدريبات على اختبارات التحمل والقدرة تكون تدريجيا، وبعدما يكتمل النمو على جميع المستويات، فهل يعقل أن نحمل طفلا عمره أربع سنوات أثقالا بقصد تعويده على حمل الأثقال؟ لا شك في أن هذا السلوك الأخرق سيؤدي إلى كسر ظهره، وتحطيم كل قدراته قبل نموها.

 
لا أظن أن الإنسان محتاج لتعلم القسوة بالقسوة عليه في صغره، فهذا تفكير خاطئ؛ بل ينبغي تقوية طاقات الطفل بالرعاية الصحيحة وحماية صحته البدنية والنفسية. كما أننا لسنا بحاجة للقسوة عليه في نضجه؛ فالأجدى أن نجعله يواجه قسوة الحياة الفعلية وليس الافتراضية أو المصطنعة من طرف الوالد، كما ينبغي ألا نجعل مصدر أمانه وأهله ضنكا. 


يتعرّض كل فرد لاختبارات عدة في حياته، وما يجعله يتجاوزها ليست القسوة عليه من طرف أبويه اللذين يجعلان منه بهذا التصرف شخصا مهشم الشخصية، مكسورا في اعتداده بذاته، بل تجاوزه للمآسي سيكون رهينا بثقته بنفسه، ومدى ارتكازه على مرجعياته الأسرية، وقيمه الوجدانية التي رسخها فيه والداه.

 

إن الأبوين هما النبع الذي تتفجر منه ينابيع الماء العذب الزلال، الذي يسري دفئا وحنانا في عروق الأبناء، فلا يجوز أن تسقي الأم رضيعها علقما لتعوده على مرارة الحياة، كما لا يعقل أن يـُشَرد الوالد ابنه ليعلمه المسؤولية والاعتماد على النفس.


توجد العديد من الوسائل المناسبة لتربية الطفل على تحمل المشاق بصفة مبسطة، وتتناسب مع مراحل النمو ونضجه العقلي والنفسي، فالأنشطة الرياضية أول طريق للتحمل والصبر، كما أن المشاركة في بعض الممارسات التربوية والانضمام إلى منظمات الكشافة في سن المراهقة، يؤديان إلى كل المقاصد المذكورة؛ أما بعد سن المراهقة فهيئات المساعدات الإنسانية بكل أشكالها، والجمعيات والمراكز المتخصصة، تزخر بتدريبات ورياضات ورحلات ومغامرات، وغيرها من الفعاليات التي تسهم في بناء قدرات المرء على فهم الواقع ومواجهة نوائب الدهر.


ليست القسوة مهارة تكتسب بل هي تـَبـَلـّد الوجدان؛ ينبغي التسلح بكل الحيوية المتأصلة في جذور الإنسان لمواجهتها، وشَـتَّان بين الرجل الشجاع الذي عنده جلد على تحمل أعباء الحياة، وتخطي الأهوال والصعاب؛ والشخص القاسي الذي لا يفقه إلا تعنيف ذويه، والتهور في مواجهة المآسي؛ فيسيء من حيث يدري أو لا يدري، ويتوهم أن قسوته تحميه، بينما هي نار يكتوي بها قبل غيره، فتحطم إنسانيته ليصبح فاقدا للإحساس، فارغ الفؤاد، عديم الضمير، متحجر الكيان، لا يلوي على شي.
 
تويتر