الأم للحنان.. والأب لتقديم الحلول

منحوتة بعنوان «العائلة» للفنان هنري مور .«ويكيميديا»

لم تكن حميمية الطفل بأمه، يوماً، مثار اختلاف، أو اجتهاد، بل ربما كانت من القليل الذي التقت عليه الثقافات المتعددة، وأدبيات الشعوب، وسلوكياتها وحكاياها، لكن التطور الذي يطرأ على علاقات الأبناء بآبائهم، مع تنامي أعمارهم، ومرورهم بمراحل التبدل السيكولوجي، والعاطفي، والمشاعري، ظل دائماً محط قراءات علمية، ومعالجات طالت حتى كتابات الأدباء والروائيين، بل إنها كانت موضوعاً لمسرحيين منذ المسرح اليوناني القديم.

 

فثمة تغيرات تطرأ، تتواكب مع تطور العمر، عند الصبي والصبية، ويصير أحد الوالدين أقرب للفهم، فيصير الابن أو الابنة، أكثر ميلاً لبثه شكواه، والبوح له، أو الاستعانة به، والاستفادة من خبراته.

 

هذه العلاقة المركبة، طرحناها بسؤال مباشر على عدد من القراء: أيهما تشعر بأنه أقرب إليك.. الأب أم الأم؟، لم تتباين الإجابات كثيراً، والتقت إلى حد بعيد مع رأي علم الاجتماع أيضاً!


انحياز للأم
«أحب أمي أكثر من أبي منذ الصغر، بحيث كنت اشعر بأن عاطفتي تجاه امي اقوى من عاطفتي تجاه ابي»، بهذه الكلمات بدأت نتالي ضاهر وصف علاقتها بوالديها خلال مرحلة الطفولة، لتعود وتقول «لم اكن اشعر بحنان ابي بسبب اضطراره للعيش بعيداً عنا في فترات معينة، وفي كثير من الاحيان كنت اشعر بتفاوت في العلاقة مع امي وابي، فأميل الى احدهما خلال فترات والى الآخر في فترات اخرى، ولكن إن خيرت بين الاثنين فسأختار امي». وتبرر ضاهر اختيارها للام بالقول، «الجميع يعرف ان الأم تمثل الحنان فيما الأب يمثل الجدية والشدة.

 

واذكر انه حين غادرت منزلي في القرية وقصدت بيروت للدراسة، ورغم اني كنت سأعود في نهاية كل اسبوع، الا انني حين ودعت امي، بكيت حين رأيت دموعها وشعرت بخطورة الموقف الذي أنا فيه، وكذلك كان شعوري حين سافرت للمرة الاولى». وتضيف ضاهر «استطيع القول إن أمي ضحت لاجلي اكثر من أبي، لأن الام تحرم نفسها من كل شيء من اجل اولادها»، لكنها تستدرك قائلة «اليوم اشعر بحنان والدي الذي لم اختبره في الصغر، ولكن امي لها الرصيد الاكبر من الحب. لكنني الجأ الى والدي حين احتاج للعقلانية، والى امي حين احتاج للحنان وللدعم العاطفي».


تضحيات متساوية 
من جهتها تعترف روضة محمد بأنها كانت تميل لوالدها في الصغر اكثر من والدتها، وان هذه العاطفة استمرت حتى بعد انتهاء مرحلة المراهقة، وتقول «علماً ان المرأة تكون اقرب الى المرأة، الا انني ومنذ الصغر كنت اقرب لوالدي، حيث كانت امي اكثر قساوة من والدي»، وتضيف «العلاقة القوية التي جمعتني بوالدي، جعلته مثلي الاعلى في الحياة، فتعلمت منه مهنة التصوير، ثم درست الصحافة لكن دون ان اتخلى عن التصوير، فبت اعمل اليوم في مجالي الصحافة والتصوير». 

 
وعن مشكلاتها تقول «امي شديدة في التعامل معنا، مما جعلني اقترب اكثر من ابي والجأ اليه حين اتعرض لمشكلة معينة، حيث أراه قادراً على تقديم الحلول». ولكن رغم محبتها الغالبة لابيها إلا ان روضة محمد لا تميز بين تضحيات الأم والأب، إذ تقول «إن تضحيات كل من الأم والأب متساوية، فلا يمكن ان انكر تعب الاب خارج المنزل، وعودته الى اولاده ليتابعــهم، فيما تهتم الام بكامل تفاصيل حياة اولادها، ما يعني ان تضحياتهم لاجلنا لا تنتهي وهي متساوية». 

 

زواج وإنجاب
«أصبحت أكثر تقديراً لأمي بعد أن وضعت طفلتي الاولى»، هكذا بدأت هدى كمال، حديثها عن علاقتها بوالديها، وتفسر مشاعرها بالقول «تغيرت علاقتي بأمي بعد الولادة، فقد اصبحت اكثر تقديراً لتضحياتها، واعتقد ان الفتاة تقترب من والدها في مراحل عمرية معينة، ومن امها في مراحل أخرى. وتذكر أنها كانت «أكثر قرباً الى أبي في مرحلة الطفولة، فيما اصبحت اكثر ميلاً الى أمي في مرحلة مهمة جداً من حياتي وهي مرحلة الزواج والإنجاب». وتضيف «تحتاج الفتاة في هذه المراحل الى من تثق به، ولا اعتقد ان هناك افضل من الأم كي تساعد ابنتها، لذا الجأ اليها حين احتاج لنصيحة بخصوص الزواج، او حين احتاج لعطفها، فيما الجأ لوالدي حين احتاج الى الحكمة». وتؤكد كمال «ان مشكلات المراهقة تجعل المرء اكثر اتجاهاً الى الاصدقاء، اذ كثيراً ما يخاف اللجوء الى الاهل، لكن هذا لا يمنع تقدير تضحيات كل منهما، لأن كلاً منهما يضحي بأسلوب مختلف».


الاستقلالية
ويرى معتز صيام أن ميله الى أمه في الصغر «طبيعي»، كون الأم تعطي اولادها الحنان، فيما يعرف الاب «بشدته مع الولد كي يصنع منه رجلاً». ويتابع بالقول، «لا اشعر اني اليوم اميل الى احد منهما اكثر من الآخر، فالاثنان يحتلان المكانة نفسها في قلبي، اذ ضحّيا من اجلي بالدرجة نفسها، لا بل واعتقد اني وضعت والدي في كثير من المواقف المحرجة، التي اندم اليوم عليها، بسبب شقاوتي في الصغر، ولا سيما تدخيني في المدرسة الذي وضع أبي في موقف محرج جداً أمام المدرسين»، ويؤكد صيام انه حالياً يلجأ الى نفسه وليس أحد والديه، لكنه «لا يمكن الاستغناء عن حنان الأم وحكمة الأب في بدايات تكوين الشخصية، والبحث عن الاستقلالية والاعتماد على الذات». وتابع قائلاً «احرص اليوم على ابعاد اهلي عن المشكلات، وهذا ما جعل علاقتي بوالدي اقرب الى الصداقة».

 

حب فطري
«يميل الطفل الى أمه في المرحلة المبكرة من عمره (أي اول سنتين من حياته) وهذا شعور فطري وطبيعي». هكذا حلل استاذ علم الاجتماع في جامعة الشارقة، الدكتور حسين العثمان، العلاقة الطبيعية التي تربط الأطفال بأولياء الامور، وكيف  تتطور هذه العلاقة مع مراحل الحياة. 


ويعلل العثمان تعلق الطفل بأمه في بداية عمره بالقول، «إن الرجل في المجتمع العربي، لا يعرف كيف يتعامل مع الاطفال، فغالباً ما نرى في مجتمعاتنا ان الرجل يخاف ان يحمل طفله في الاشهر الاولى من عمره، لذا فإن الأم تكون الشخص الذي يقدم العناية الكاملة والرعاية للطفل في السنوات الاولى من الحياة». اما بدء تغير علاقة الطفل بأهله فيكون في مرحلة المراهقة، إذ يؤكد العثمان، «أن الذكر يبدأ مع المراهقة باكتشاف مرحلة الذكورة، بحيث يشعر برجولته ويخرج من الاطار الاسري، ويتقرب الذكر شيئاً فشيئاً من والده، كون ذلك يؤكد لدى المراهق الاحساس بالرجولة». 

 
تماسك أسري
و«التماسك الأسري يدل على صحة علاقة الطفل بأبويه»، هذا ما اشار اليه العثمان، اذ ان «الذكور يميلون الى الآباء في مرحلة المراهقة، فيما تميل الاناث الى الامهات، ولكن طبعا ميل الاناث الى امهاتهن لا يعني انهن سيبحن بأسرارهن الخاصة لهن، فهناك كثير من الفتيات اللواتي لا يبحن بمشكلاتهن إلا للاصدقاء». 


واستدرك العثمان ضرورة الاشارة الى نقطة ذات اهمية، وهي ان «الدور الذكوري في العائلة سلبي، إذ إن الرجل غالباً ما يحمل نفسه مسؤولية العمل خارج المنزل، مما يؤثر في علاقته بأبنائه على نحو سلبي، في حين ان المرء يجب ان يعمل لنفسه وليس لاجل اولاده فقط، فمن الملاحظ ان الرجل الشرقي يعمل لاجل اولاده، حتى وان كبروا، وهذا جزء من طبيعة الثقافة العربية»، لذا نصح العثمان «بوجوب الالتفات الى الدور الاسري الذي يؤمن للاطفال بيئة مثالية للنمو  والتطور». 


دعم عاطفي 
 
«من الصعب تحديد ميول الذكور والإناث الى احد الوالدين تبعاً لقاعدة ثابتة، لأن تحديد هذه المشاعر يعود الى طبيعة شخصية كل من الأب والأم، وكيفية تعاملهما مع الاولاد، والدور الذي يأخذه كل منهما، ولكن من المتعارف إليه ان الأم تبني جسوراً للعلاقة المتماسكة والمتوازنة في العائلة». لذا يشدد العثمان «على ضرورة تأمين الدعم العاطفي الذي يعتبر اساس العلاقة السليمة بين الآباء والأبناء، فهو الذي يؤثر في مستوى التماسك الاسري».

 

ونصح العثمان الامهات اللواتي يعملن ويغبن عن اولادهن لنحو ثماني ساعات في اليوم، «بأن يقمن بتعويض غيابهن عن الاطفال كي لا ينحرفوا لسلوكيات غير سوية أو يتجهوا لعلاقات غير مقبولة وغريبة». 

تويتر