العصبية الجائرة

د. أحمد الإمام

 

اتصلت المستمعة لتطلب النصيحة بشأن سلوكيات زوجها السلبي في تربيته ابنتهما، وبيـّنت أن زوجها لا يتوانى عن معارضتها أمام الطفلة؛ الأمر الذي شجّع الطفلة على اللجوء دائماً إلى والدها، والتعلّق به بصورة تعتبرها الأم مبالغاً فيها؛ بل تشعر بأن زوجها يستدرج بسلبيته وهدوئه عواطفها بعيداً عن أمها؛ فتستشيط غضباً عليهما، رغم أنها تعتقد أن صرامتها تصبّ في مصلحة الابنة وتربيتها التربية الحسنة.

ركّزت في مداخلتها المبدئية على هدوء الزوج السلبي، وعدم تجاوبه معها في تربية ابنتهما، بل اعتبرته مستفزاً لها بتصرفاته الباردة، وبعد أن خصصنا حلقة لدراسة اختلاف الطباع ووجهات النظر بين الأبوين في تربية الأطفال، توصلتُ بمكالمة من مستمعة تشتكي من عصبيتها تجاه زوجها، وأنها تتجاوز عليه، وهي تندم على تصرفاتها، وأغرب ما سمعت على الهواء ما صرحت به أنها تطالب زوجها بضربها ليوقفها عند حدها، وذلك كي يساعدها على عدم التمادي عليه، فكان جوابي أنها تسعى لاختلاق جو من المواجهة العنيفة داخل حلبة الأسرة التي من المفترض أن تكون مكان السكينة والقرار.

 

أما المفاجأة الكبرى فهي المكالمة التي أتت في ختام الحلقة، حيث اعترفت المتحدثة بأنها السيدة نفسها التي اشتكت زوجها بكونه سلبياً في هدوئه، وعدم دعمه لها في صرامة تربيتها ابنتهما، وأنها كذلك هي المتصلة التي اعترفت بعصبيتها ومطالبتها زوجها بضربها لتتوقف عن مبالغاتها، وقالت إنها أدرى بخفايا حياتها، والحقيقة أنها كانت تتعرّض للضرب في طفولتها، وتعرضت لأشكال أخرى من المآسي؛ فأدركَت أنها تختلق المشاحنات لتعيش أجواء العنف المضمر في نفسها، وبيّـنـَت أنها تبتز طيبة زوجها وتستدرجه للعراك معها، وصرّحت بأنها استفادت من مختلف المداخلات والمعلومات الواردة في الحلقة، حيث شعرت بأنها صُـفعت بالفعل من الواقع واستيقظت أخيراً من غفلتها، وعلمت أنها تسير في طريق الضياع والتفريط في زوجها واستغلال طيبته للمزايدة عليه.

 

شعرتُ بالحبور لتمكننا جميعاً خلال حلقة واحدة من تحريك ضمير الصدقية لدى هذه المستمعة، وتحوّلها من عرض مظاهر تصرفاتها بالأسلوب الذي يرسخ مغالطاتها لنفسها، إلى مكاشفة الذات بكامل الشفافية واليقظة، وتحس بالألم من سلوكياتها الجائرة في حق زوجها؛ حيث تعود الكثيرون ركوب موجة المغالطات والمزايدات التي تلون الباطل بألوان المظاهر الزاهية أو العبارات الرائجة أو الأفكار السائدة، بينما الحقيقة غير ذلك تماماً.

 

غالباً ما تكون المرأة العصبية واعية كل الوعي بسلبية تصرفاتها، لكن تأخذها العزة بنفسها، ولا تفلت أي فرصة لتموٌّه عن مساوئها بدسها في ثنايا علاقتها بزوجها، تكون كمن تروي شجرة حديقتها بماء ملوث بمخلفاتها، وهي تطمح أن تكبر هذه الشجرة وتثمر، وتستكثر عليها بذل الجهد لسقيها بعذب المياه الذي يتطلب منها جهداً لجلبه إليها.

 

لا شك في أن شبح الطلاق والفرقة أصبح يخيم على علاقة هذه السيدة بزوجها، كما أنها أيقنت بأنها قد تفقد نعمة إلى ما لا رجعة، وحينها لا ينفع الندم، فلن تزيدها آنذاك عصبيتها الجائرة إلا تعنتاً وبعداً عن أمانها واستقرارها الأسري.

مهما عظـُمت اضطرابات المرء النفسية وتعقدت، إلا أن معدنه الصافي يعود به دائماً إلى جادة الطريق، فتصبح تجربته مع الاضطراب مجرد رحلة في أغوار النفس البشرية، أما من قسى قلبه، وتحجرت مشاعره، فلا شك في أنه يستقوي باضطراباته على الآخرين، ليدمر بقايا إنسانيته في تعامله معهم؛ فيتوهم أنه ينتصر عليهم، بينما هو مرسخ بُعده عن المكرمات، بل انسلاخه عن أبسط مقومات الإنسانية.

تويتر