حكايات عتيقة ترويها الجدران والأسواق والأمكنة

«قلب الشارقة» ينبض بالتاريخ والحياة

صورة

تُعد منطقة «قلب الشارقة» وجهة متفردة ومنبعاً لحكايات الأجداد المؤسسين، تختزن عبق التاريخ وذكريات الماضي وتحمل مبانيها ومرافقها قيمة لا تقدر بثمن فهي جزء من تاريخ إمارة الشارقة الأصيل، وطابع حياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتضم جميع الأعمال الفنية التي تركها لنا الأجداد كأيقونة تحفظ مسيرة الإمارة الثقافية.

وتقع منطقة قلب الشارقة في الجزء القديم من مدينة الشارقة؛ ووفقاً لمصادر تاريخية فقد لعبت هذه المنطقة دوراً بارزاً في تطوير التجارة على مر القرون، إذ أكد العالم العربي المسلم الشريف الإدريسي وجود ميناء في المكان الذي تقع فيه منطقة قلب الشارقة حالياً، وكان هذا الميناء يعد عام 1756 واحداً من ثلاثة موانئ رئيسة على الساحل بين القطيف في المملكة العربية السعودية، وصير رأس الخيمة، وهي العجير وقطر والشارقة وتحتوي هذه الأماكن على نسبة ضئيلة من السكان، ومنها كان يتم نقل بلح البصرة والأرز إلى عرب الصحراء من قبل غواصي اللؤلؤ.

أيقونات مميزة

تستمر مسيرة الماضي وعبقه الأصيل في كل زاوية من «قلب الشارقة» فبالانتقال إلى «بيت السركال» نجد أن هذا البيت التاريخي يجسد الروح الحقيقية للشارقة فقد شيد في القرن الـ19.

معلم آخر يجسد الروح الحية لمعالم «قلب الشارقة» العتيقة، وهو «بيت عبيد بن حمد الشامسي» الذي يرجع تاريخه إلى عام 1845 وتسهم هذه الأيقونة في إظهار فن العمارة الخليجية التقليدية.

ويُعد «سوق العرصة» أهم الأسواق القديمة في دولة الإمارات، حيث كان فيما مضى - قبل أكثر من نصف قرن - نقطة التقاء رحلات تجار البدو وجمالهم المحملة بالبضائع. أما سوق «صقر» فيضفي على زواره أجواء تتناغم مع روح التراث الأصيل ويقع هذا السوق بمحاذاة خور الشارقة.

وإذا أراد الزائر الانتقال إلى عالم ينبض بالذكريات وأجواء الماضي الآسرة فما عليه سوى زيارة «السوق القديم»، حيث يتوسط مجموعة من المباني الحديثة ليشكل وجهة متفردة تأخذ الزائر بخطوة واحدة على قدميه إلى تلك الأيام الجميلة التي مازال عبقها يداعب الذاكرة. ويتميز السوق القديم بممراته الضيقة التي تعج بالمتسوقين بحثاً عن صفقة جيدة، وتملأ أجواءه رائحة العود والبخور الزكية المنبعثة من محال العطور.

في كل ركن.. حكاية

لا تقف القصص التراثية التي يرويها كل ركن في منطقة قلب الشارقة على المتاحف وحسب؛ فهناك أيضاً حكايات يرويها مركز الحرف الإماراتية الذي كان يعرف بـ«بيت المزروع القديم» ويقع في الطرف الجنوبي الغربي من إمارة الشارقة القديمة، إلى أن جرى تحويله إلى مركز للحرف الشعبية يعرض الصناعات اليدوية التي أبدعها الأجداد في ظل البيئتين الصحراوية والبحرية المحدودتين، كما يوضح ملامح الاقتصاد في مرحلة ما قبل اكتشاف البترول.

وظل ميناء الشارقة الأهم في منطقة الخليج العربي الأدنى حتى النصف الأول من القرن الـ19 وتحديداً عام 1820 حين تم تدمير موقع الشارقة القديمة ومينائها بالكامل من قبل المستعمرين البريطانيين قبل أن يتعافى بوتيرة أسرع من بقية الموانئ في منطقة الإمارات، إذ أصبحت المنطقة نقطة تواصل حضاري بين التجار القادمين عبر البحر وبين سكان المنطقة وبقية مدن الإمارات وهو ما أوجد نشاطاً تجارياً كبيراً في المنطقة ساعد السكان على إقامة العديد من البيوت السكنية والأسواق والمساجد التي ظلت شاهدة على نمو المدينة وتطورها عبر الزمن.

الحفاظ على الإرث

منذ منتصف القرن الـ20 استمرت عمليات التطوير العمراني غائبة عن منطقة قلب الشارقة كي يتسنى الإبقاء على معالمها المميزة لكن مع إدراجها في مارس 2014 ضمن القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي التي تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو» ازدادت الحاجة إلى الحفاظ على هذا الإرث التراثي الغني. ويمثل إدراج «قلب الشارقة» في القائمة التمهيدية لـ«اليونيسكو» إنجازاً يعكس غنى التراث الأثري والتاريخي في دولة الإمارات، كما أنه يسهم في الحفاظ على المنطقة وصونها وترميمها ضمن المعايير الدولية التي حددتها «اليونيسكو».

ويضمن الإدراج النهائي في القائمة فرصة التعريف بها وتسويقها على مستوى العالم، الأمر الذي سيؤدي إلى وضعها على الخريطة السياحية العالمية.

وفي إطار حماية هذا الإرث الثقافي القيم، بدأت هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) بناء على توجيهات من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مشروعاً ضخماً لتطوير منطقة قلب الشارقة ينقسم إلى خمس مراحل، ويستمر حتى عام 2025، ويُعد الأول من نوعه للمناطق التراثية في الشارقة والأكبر والأبرز في المنطقة حتى اليوم. ويهدف المشروع إلى إعادة ترميم وتجديد المناطق التراثية لتشكيل وجهة سياحية وتجارية متفردة ذات لمسة فنية معاصرة تتناغم مع طابع خمسينات القرن الماضي. ومن خلال المشروع سيتم إحياء منطقة «قلب الشارقة» كوجهة ثقافية نابضة بالحياة، وسيتم بناء فنادق ومطاعم ومقاهٍ ودور فنون وأسواق.

ويرتكز نجاح هذا المشروع في الحفاظ على قيمة المنطقة التاريخية وأهميتها الأساسية في سياق التطور الثقافي الثري للإمارة؛ فأزقتها الضيقة تحتضن البيوت العتيقة التي سكنها الأهل المؤسسون وبنيت عليها المدارس الأولى في الإمارة؛ ما جعل منها حلقة الوصل بين ماضي الإمارة العريق ومستقبلها الأكثر إشراقاً.

إحياء معالم

وقال مدير قلب الشارقة يوسف المطوع، إن «المشروع يعد القلب الثقافي والاجتماعي والتجاري لإمارة الشارقة فهذه المنطقة تحمل إرثاً وقيمة تاريخية لا يقدران بثمن، ومع التطور المستمر الذي تشهده الإمارة في جميع النواحي ومن ضمنها القطاع السياحي كان لابد من تطوير هذه المنطقة وصونها ورعايتها والحفاظ على معالمها التراثية ليس لجيلنا فقط، بل لأجيالنا المقبلة أيضاً؛ كونها تمثل ذاكرة حية للمواطنين الإماراتيين الذين عاشوا على هذه الأرض الطيبة منذ مئات السنين».

وأضاف أن «شروق» استطاعت أن تحوّل المنطقة إلى وجهة سياحية جاذبة، وأحيت معالم اندثرت في المنطقة مثل سوق «الشناصية» وبناء أخرى تحافظ على طبيعة المسكن وتشكل إضافة نوعية له مثل فندق «البيت».

ويتضمن مشروع «قلب الشارقة» العديد من المرافق والمقومات السياحية الفريدة، ويعد مركز استكشاف قلب الشارقة بداية رحلة إلى أعماق تاريخ المنطقة لكشف أسرارها والتعرف إلى مكنوناتها. ومن أبرز معالم المنطقة متحف الحصن الذي يعد أهم بناء في الشارقة منذ بداية القرن الـ19 وحتى منتصف القرن الـ20، وتم بناء الحصن عام 1823 ليستخدم مقراً للحكم وسكناً لعائلة القواسم الحاكمة. وتضم صالات العرض في المتحف مقتنيات واسعة من الصور والقطع والقصص التي توفر للزوار فرصة عيش تاريخ الشارقة وأهلها. أمّا «متحف بيت النابودة» فيتوسطه ساحة كبيرة تحيط بها جدران من الحجر المرجاني ويتعرف الزائر من خلال هذه المنطقة إلى وسائل تكييف الهواء التقليدية التي كانت تستخدم ومشاهدة الزخارف الفريدة التي تغطي الجص والخشب. ويستطيع الزائر إلقاء نظرة فاحصة على بدايات الحركة التعليمية في الإمارة من خلال متحف مدرسة الإصلاح التي تأسست عام 1935 لتكون أول مدرسة نظامية تفتتح أبوابها في الشارقة وتستقبل في فصولها طلاباً من جميع أنحاء المنطقة.

أمّا اليوم فقد تحولت المدرسة إلى متحف يضم المقاعد الخشبية وغرف الدراسة المظللة وصور الأشخاص الذين أحيوا عملية التعليم، وغرفة ناظر المدرسة ومرافع القرآن المصنوعة من خشب النخيل ليقدم المتحف للزوّار لمحة عن النظام التعليمي القديم الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 80 عاماً.

وغير بعيد عن «متحف مدرسة الإصلاح» يقع «متحف الشارقة للتراث» الذي يمكن من خلاله استكشاف أسلوب الحياة في الشارقة القديمة، والتعرف إلى الاحتفالات والأعمال الثقافية المحلية والتقاليد القصصية المرتبطة بتراث الإمارة الثري.

أمّا أكبر متاحف قلب الشارقة وأشهرها فهو «متحف الشارقة للحضارة الإسلامية» المطل على خور الشارقة، الذي يحتوي بين جنباته على أكثر من 5000 قطعة فريدة جمعت من كل أرجاء العالم الإسلامي، وتكشف جوانباً من ثراء الحضارة الإسلامية وكنوزها ويتيح المتحف لزواره إطلالة تاريخية على الفنون والعلوم والحرف والاختراعات التي ظهرت على مدار عقود مختلفة مر بها الإسلام عبر تاريخه المجيد.

تويتر