«أمة من العباقرة» يعرض تجارب هندية نابضة بالعلم والروحانية

مبتكرون بقلب المهاتما غاندي وعقل بيل غيتس

صورة

أثرياء، ومعدمون.. عباقرة بقلب المهاتما غاندي، وعقل بيل غيتس.. مدن مستقبلية تديرها الكمبيوترات، وقرى فوضوية مزدحمة بالمرضى والأميين.. حالمون بسلالم فضائية تصل الأرض بالسماء، وأطفال يقتاتون من نفايات الإلكترونيات.. ملامح تلوّن بعض قصص كتاب «أمة من العباقرة» الذي ترتحل مؤلفته البريطانية، أنجيلا سايني، بين دروب «بلد العجائب»، لتحاول رسم صورة كاملة للتجربة الهندية التي أفلحت في غزو الفضاء والتخطيط لاستعمار المريخ، إذ تلتقي صاحبة الكتاب علماء مخضرمين وشباباً: من أسسوا للانطلاقة، ومن لايزالون على مقاعد الدراسة في المعاهد التكنولوجية. وفي الوقت ذاته لا تغض المؤلفة - ذات الأصول الهندية ـ الطرف عن خلفية الصورة، وإطارها المخنوق بأزمات لم تفلح التكنولوجيا في حلها بعد، لكن «مهما كانت البيئة المحيطة مثيرة للكآبة فإن العقول من الصعب أن تقهر» على حد تعبير أحد الطلبة «الحكماء» الذين تسرد قصصهم المؤلفة.

عن المؤلفة

مؤلفة الكتاب، أنجيلا سايني، من مواليد 1980، حاصلة على ماجستير العلوم الهندسية من جامعة أوكسفورد، وهي كاتبة متخصصة في العلوم والتقنية، تنشر أعمالها في «بي.بي.سي، والغارديان، ونيو ساينتست، والإيكونوميست». وحازت لقب الكاتب الأوروبي الصغير في العلوم لعام 2009. تخرج والدها مهندساً وعمل فترة بمصنع في كلكتا الشرقية بالهند، وهاجر إلى بريطانيا.

عن المؤلفة 295

صفحة يضمها كتاب «أمة من العباقرة»، تأليف: أنجيلا سايني، ترجمة: طارق راشد عليان. سلسلة «عالم المعرفة»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2015.

الصورة كاملة

لا تكتفي أنجيلا سايني في كتابها بلقاء العلماء الكبار، بل تثري كتابها بحوارات مع الطلبة وتقنيي المستقبل، وكذلك الفلاحون والفقراء، وسواهم، وتعكس صورة «خدّام التكنولوجيا»، الأطفال الصغار الذين يفرزون عشرات الأطنان من المخلفات الإلكترونية في مدينة مصطفى آباد، معرضين حياتهم للخطر، مقابل ثلاثة دولارات في اليوم.

في عمق الحالة الهندية، تضع أنجيلا سايني ذاتها، إذ لا تمسّ التجارب من الخارج، مكتفية بكونها وصّافة جيدة، بل تبحر في الأعماق؛ فحين تستعرض مثلاً المشروع الفضائي الهندي، مستمعة إلى أحد رواده، لا تخفي خشيتها من أن يتحول الحلم في لحظة ما إلى كابوس.. وحين تسجل آراء أساتذة معاهد التكنولوجيا وأحلام الطلبة، لا تغفل عن الأزمات الفردية والهواجس وحالات الانتحار بسبب الأعباء الزائدة على الحد.. وفي الوقت الذي تجتمع مع أصحاب معامل ومختبرات يحاولون مساعدة الفلاحين على مقاومة دودة القطن التي تلتهم المحصول، تأتي برؤية ناشطة بيئية مغايرة تطالب هؤلاء بالكف عن العبث واللعب في جينات البذور.. بينما في ثنائية العلم والإيمان، العقل والروحانية، تضرب الكاتبة بعيداً، فتأتي بقناعات من يرون «الآباء» قد غزوا الفضاء منذ 5000 عام، حسب رسومات مخطوطات دينية، وفي المقابل، تورد آراء الطرف الآخر، من يرون كل تلك الأمور خرافات، ويهاجمون من يؤمنون بها.. فالكتاب، الذي ترجمه طارق راشد علوان، وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية الرائدة، أقرب إلى التحقيق الصحافي الممتد، الذي يسعى إلى اكتشاف التجربة الهندية بكل ما لها وما عليها، وليس كما يصوّر العنوان الإيجابي من الوهلة الأولى: «أمة من العباقرة».

الهنود على القمر

تساؤلات عدة تحاول الإجابة عنها المؤلفة أنجيلا سايني، من بينها: كيف صعد الهنود إلى القمر؟ وما أحلامهم المقبلة عن المصاعد التي تصل الأرض بالفضاء الخارجي؟ وكيف تحولت مدينة مثل بنغالور من واحة للمتقاعدين الراغبين في الراحة إلى مركز تكنولوجي جذاب؟ وهل بمقدور هذه الأمة أن تصبح قوة علمية عظمى تتنافس مع بقية دول العالم؟ أم إن الأمر مجرد ضجيج بلا طحن؟ وربما السؤال الأبرز: كيف تتلاقى في جينات هؤلاء المبتكرين البارعين الروحانية والعقلانية في آن واحد دونما أي إحساس بصراع ما بين هذه وتلك؟ وغيرها من الأسئلة التي يطرحها الكتاب، وربما يهدف إلى الدوران حولها وعرض كل الآراء، إن لم يستطع القطع بإجابة ما.

بداية الرحلة مع التحدي الأكبر والحلم الأبرز للهند ربما، وهو الانضمام إلى نادي الفضاء وغزاة الكواكب الأخرى، من قبل دولة مسالمة لم تُغِر جيوشها على حيز آخر، بل ظلت حتى عام 1947 تحت الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، والتاج البريطاني، إذ يعتقد كثيرون من الهنود أن «إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل».

تزور الكاتبة مركز فيكرام سرابهاي لأبحاث الفضاء، حيث شكلت الخبرة الفضائية التي نجحت فيها الهند مفاجأة لبقية دول العالم، و«الصدمة الكبرى بالنسبة إلى الجميع تمثلت في كيفية تنفيذ كل شيء بكلفة زهيدة جداً، فكلفة الأبحاث الفضائية للهند نحو 3% من ميزانية وكالة ناسا».

المدينة الناعسة.. تستيقظ

ومن الفضاء الهندي إلى «وادي السيليكون» الهندي أيضاً؛ حيث بنغالور التي كانت ملاذاً للمتقاعدين الراغبين في الهدوء، ثم تحولت المدينة الناعسة إلى مركز تكنولوجي لشبه القارة الهندية والعالم؛ لتصبح وادي السيليكون المليء بالعباقرة والمليونيرات الجدد. والحلم هو تحويل شركاتها من مجرد شركات صيانة إلى شركات مبدعة عملاقة؛ مثل «مايكروسوفت» و«غوغل»؛ حيث تحتشد بجيل ذي فضول علمي، يقدر الذكاء والتفكير والهندسة.

تلتقي المؤلفة، في رحلة البحث، الملياردير نارايانا مورثي (بيل غيتس الهند) الذي بدأ شركته «إنفوسيس» في عام 1981 بقرض من زوجته، وبحلول 2008 بلغت قيمة الشركة أكثر من أربعة مليارات دولار.

لم يرث مورثي ثروته لكنه «يمتلك فلسفة خاصة؛ ويعرف بجمعه بين الذكاء العملي والقيم الهندية الشاملة، فهو أحد أغنى الرجال في البلاد، لكنه يلتزم بطريقة الحياة المتواضعة نفسها للمهاتما غاندي». ويجد راحته في الحياة البسيطة، إذ «لايزال الهنود جميعهم مثل مورثي يعيشون في عباءة غاندي». الفيصل - كما تقول مؤلفة الكتاب واصفةً مورثي: «إنه لا يعيش بمُثله فحسب؛ بل يؤمن بها حقاً»؛ فالملياردير يعيش بين الزهد والثروة، جامعاً بين قيم غاندي وعقلية بيل غيتس، و«المنطقة الوسطى هي التي تفسر لنا شعار (إنفوسيس): وقودها الذكاء ومحركها القيم».

ورغم كل تلك الهالات التي يتمتع بها الملياردير الهندي، إلا أن انتقاده موجود بالكتاب؛ وكأن المؤلفة تبحث عن الكمال، فبعد سردها حكاية مورثي ورحلة نجاحه، ترى أن الشركة لم تحقق إنجازاً علمياً دولياً، ومقارنة بـ«مايكروسوفت» فإنها تنفق جزءاً بسيطاً من دخلها على البحث والتطوير.

كما تعرض المؤلفة تجربة مدينة لافاسا الهندية، التي تسعى لتكون نموذجاً خاصاً، مجتمعاً مثالياً، جنة للعباقرة الذين لن يعيشوا فيها فحسب، بل يتسيدونها ويحكمونها، على حد تعبير الكاتبة. والحكم هنا معناه تحويل كل نقطة اتصال بين الحكومة ومواطنيها إلى الفضاء الإلكتروني وجعل كل شيء رقمياً. فهوس المدينة أن تمسي عاصمة كبرى تحكمها الآلات في المقام الأول: «صف من الحواسيب يتحكم في كل شيء، بداية من أمن المنازل حتى شبكة النقل والمواصلات».

قناعات

تمضي أنجيلا سايني في رحلتها التحقيقية طويلاً مع ثنائية الروحانية والعقلانية، وما تولّده من إشكاليات، يعكسها من يذهبون إلى أقصى اليمين أو اليسار؛ فثمة قناعات راسخة - من وجهة نظر الكتاب وصاحبته - لدى كثيرين بأن الهنود الأجداد أنشأوا آلات طائرة منذ 5000 عام، ثم سافروا ليلتقوا مخلوقات غريبة على كواكب أخرى، حسب مخطوطات الفيدا، وهو ما تؤكده أكاديمية الأبحاث السنسكريتية، وثمة «علماء مخضرمون يؤمنون بأن المعرفة الكونية موجودة في مخطوطات الفيدا»، ويأمرون المؤلفة بأن تخلع حذاءها على أبواب مختبراتهم، وكأنها في حضرة معبد.

ومع أن الكاتبة محررة علمية وباحثة، إلا أنها تنتقد المبالغة في المشروعات المستقبلية وفوضى الأفكار في الهند، ومن النقد الحاضر في ختام الفصل المعنون بـ«آلة قراءة الأفكار»: «خارج أبراج العاج الخاصة ببعض الجامعات القليلة، ومكاتب شركات تكنولوجيا المعلومات وأفضل معامل البحث، تبدو بعض أجزاء من الهند هشة ضعيفة كأنما يسودها الاضطراب وعدم سيادة القانون، وفي الحقيقة فإن كثيراً من الناس الذين قابلتهم في رحلتي حتى الآن يشكون من أن العقبة الرئيسة التي تعوق التقدم هي الإدارة السيئة، مازلت أفكر في هذا وأنا في طريقي إلى المطار، وأجد من الصعوبة أن العقول الهندية؛ تلك العقول المبتكرة في مجال الاختراعات التي تخدم الفلاحين والفقراء، لم تفكر في حلول لتلك المشكلة، فهل يتمكن العباقرة من إيجاد طريقة لتحقيق مزيد من المنطق والنظام في إدارة شؤون البلاد؟».

وتتطرق الكاتبة إلى ما صنعه جواهر لال نهرو حتى يسهم في نهوض شعبه، ويوسّع قاعدة العلماء والمهندسين، إذ «لم يكن حلمه مقصوراً على جعل الهنود يكرسون وقتاً أكبر للاشتغال بالعلوم، بل أن يفكروا أيضاً بطريقة أكثر عقلانية في حياتهم اليومية. فقد كانت الهند دولة متدينة بعمق، ومعدلات الأمية مرتفعة فيها، وأعداد غفيرة من السكان يؤمنون بالخرافات تماماً، كما كانت حالهم قبل القرون الوسطى، ولم يكن شاذاً بالنسبة إلى الناس أن يعتقدوا في الاستشفاء بالغورو (المعلمون الروحانيون) أكثر من اعتقادهم في الأطباء البشريين وأطباء الأسنان، أو حتى أن يضعوا قراراتهم المصيرية بين يدي أحد العرافين. وكان نهرو يرى أن ذلك الوضع لابد أن يتغير. كان يؤمن بأن من حق الهند أن تكون لها حركة التنوير الخاصة بها، تماماً مثل أوروبا، لتقضي على هذا الوباء من الخرافات وتستبدله بالمنطق والفكر السليم. واليوم نجد أنه في الدستور يوجد نص قانوني يعلن أنه يجب على كل مواطن هندي أن يشارك في تنمية الفكر العلمي».

 

تويتر