معرض للفنان أسعد عرابي في «أيام غاليري» بدبي

«تجريد المـــدن».. شكل آخر للحنين

صورة

عاد الفنان أسعد عرابي إلى التجريدية، بعد أن أخذت الموسيقى حيزاً من أعماله السابقة، نلاحظ عودته إلى الصياغة اللونية الأثيرة، التي تجمع بين الهندسة والعمارة، فيقدم شكلاً جديداً للمدينة التي تصوغ كل ذكرياته وماضيه مع مدينتي صيدا اللبنانية ودمشق السورية. يقدم الفنان اللبناني في معرضه «العودة إلى التجريد» الذي افتتح أخيراً في «أيام غاليري» بدبي، اللون بأسلوب بنيوي يجيد فيه محاورة المتلقي وفق ذاكرته وماضيه وحاضره، حيث يجمع المعرض 21 عملاً يحاكي من خلالها أشكال الحياة في المدينة بين الليل والنهار.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/05/314191.jpg

• في عام 1958 بدأت بتصحيح الشكل وإلغاء المنظوم، والنظر للوحة على أساس علاقات لونية وسطوح مقصوصة.


سيرة لونية

ولد الفنان أسعد عرابي عام 1941، ودرس الفنون في دمشق مع أستاذه الإيطالي الذي كان يقود منهجاً حديثاً في التجريد. انتقل إلى باريس عام 1975، وبعدها حصل على الدكتوراه في الفنون. يملك مجموعة من الدراسات إلى جانب المقالات النقدية التي يقدمها باللغتين العربية والفرنسية. قدم مجموعة من المعارض الشخصية بين بيروت ودبي ودمشق وباريس والكويت. كما كانت له مجموعة من المشاركات في معارض عالمية، ومنها بينالي القاهرة. اقتنيت أعماله من مجموعة من المؤسسات الثقافية والمتاحف، ومنها في كوريا وإسبانيا ولوس أنجلوس وباريس.

تحمل أعمال عرابي الهدوء والسكينة في ألوانها، فنجده يتعمد التكثيف اللوني بأسلوب هادئ، حيث يكون لديه في كل لوحة لون مسيطر هو الذي يصوغ الشكل النهائي للوحة. ينصرف عرابي إلى المدينة وإلى الحياة بعدما أبحر في عالم الموسيقى في معارضه السابقة، ومنها المعرض الذي حمل عنوان «أم كلثوم»، الذي جسد فيه أم كلثوم مع الأوركسترا العازفة، خصوصاً على العود مع محمد القصبجي. وعلى الرغم من كون الموسيقى في ذلك المعرض أتت امتداداً لمعرض الرقص الذي قدمه عام 2006، إلا أنه أوجد نوعاً مختلفاً من الموسيقى اللونية في معرضه الحالي، فهي وإن لم تحضر في الآلات أو حركات الرقص، بدت بتناغم لوني يملك قوة التجريد الموسيقي.

يعرفنا عرابي في المعرض، الذي يستمر حتى 18 يونيو، على أشكال المدينة، فهي تارة تبرز أشباح ساكنيها، وتارة تبدو مدينة معزولة، أو نجد فيها مظاهر العشوائية في التركيب. يبرز من خلال المدن الغياب لساكنيها في كثير من الأحيان، ويستعيض عنهم بمجموعة من الرموز والأبجدية، فتبدو المدن بين حالتي البناء والتدمير، فلا يدرك المتلقي ما إذا كان الفنان يعيد بناءها أو أنه على العكس من ذلك يسعى إلى هدمها. في الختام يقودنا في هذه الحالة الوجدانية العالية إلى التفكر في حال الإنسان في النطاق الزماني والمكاني، وحضوره وعزلته، وحياته وموته، يعيدنا إلى الكثير من الأسئلة الوجودية المنبثقة عن حالات وجدانية.

وقال أسعد عرابي لـ«الإمارات اليوم» إن «المعرض يتحدث عن فكرة المدينة التي تسكن الذاكرة والتي لا تغادرني في باريس، وهي بين صيدا ودمشق، فصيدا مدينة والدي، ودمشق مدينة والدتي، والعلاقة بين الاثنتين موجودة في عملي الباريسي دائماً، الذي يمكنني القول إن باريس المدينة التي أقيم فيها والتي تظهر في عملي من خلال مدرسة باريس وهي الأكثر تأثيراً فيّ». وأضاف أن «مصادر عملي واضحة وليست خجولة، وعملت على التجريد الغنائي في باريس، وكنت أشارك في كل سنة بمعرضهم، وكان واضحاً في عملي العلاقة بالتصوير العربي القديم، ففي عام 1958 بدأت تصحيح الشكل وإلغاء المنظوم والنظر للوحة على أساس علاقات لونية وسطوح مقصوصة، وتحمل تناغماً موسيقياً، وعلاقتي بالموسيقى عريقة وليست حديثة، ومنذ البداية تعاطيت مع الموسيقى لدرجة أني حاولت أن أكون موسيقياً أكثر من كوني مصوراً، ومع التقدم في العمر والإفراط في سماع الموسيقى، من دون أي تعصب للنوع، ما جعل أعمالي تمنح العلامة المتباعدة، وتشير إلى ما أسمع وما يهزني من الداخل».

واعتبر عرابي علاقته مع الموسيقى علاقة بنيوية، وعلاقته مع المدينة علاقة معيشة، فهي تشبه ظله، فيما اعتبر علاقته بالغربة والسفر الدائم، السبب الذي منح أعماله بعداً شمولياً وليس تعصبياً، له علاقة بترحال الزمان الدائم، وهوية المكان، وهي سمة الإنسان المعاصر. ولفت إلى أنه اليوم لا يوجد لبناني معاصر يعيش في لبنان فقط، فلبنان بلد بطبيعته مفتوح على المتوسط، وأدب المهجر جزء أساسي من الأدب اللبناني، والسفر لا يعيب شخصيته بل يغنيها، والموضوع لا يتعلق بثقافة منفتحة على الغرب، بل إن اللبناني منفتح اجتماعياً وثقافياً، فعدد اللبنانيين الذين شاركوا في حركة النهضة بمصر يعادل عدد المصريين، فهناك أسماء كبيرة لم تفقد لبنانيتها على الإطلاق.

وحول المدن في أعمال عرابي، قال «أحياناً أشعر بدمشق في بعض الأحياء في باريس أكثر من دمشق التي بقيت، أو أرى صيدا أكثر من صيدا الموجودة، ففكرة الحميمية في شكل البيت، والموطن الذي هو مرقد دائم للإنسان، كحضن الأم الذي يبحث عنه بشكل دائم ولا يجده، والهدف ألا أجده، فالهدف أن أبحث عن روحانية البيوت الدمشقية والبيوت في صيدا، وهذا لا يعني أني متمسك بهذا الزي من العمارة، بل متمسك بالإنسان الذي يبني هذا النوع من العمارة، ويحافظ على بعده الداخلي الروحاني بهذه القوة». وحول التوزيع اللوني، أكد أن هناك لوناً مسيطراً في اللوحة، ويسيطر في آخر الوقت، وهو وجداني، فغالباً ما تكون القوة الوجدانية هي المسيطرة وليس الجانب المعرفي الأكاديمي، وإني أفضل الوجداني على الحذاقة.

أما الهندسة التي تحضر في أعمال عرابي، فقد شدد على أنه متعصب لكون اللوحة عمارة، فهي ليست مجرد مجال حدسي، فالحدس يتطوع بشكل كبير، «وإن أخذنا كل الفنون بتاريخ الإنسان، لها عمارة في الفراغ». وأشار إلى أن شخصية الفنان الأساسية لا نلتقطها إلا بعمارة الفراغ، وموقع الأشياء من الفراغ، وليس دلالة الأشياء كما يظن الأدباء «فشخصياً أرسم اللوحة من كل الجهات، ولا أعتبر اللوحة خاضعة للجاذبية الأرضية، فهي مفهوم، وأرسم الأشخاص بالمقلوب أحياناً».

ولفت إلى أن قوة الصورة وتأثيرها في الجمهور تأتي من قوتها في الوعي الجمعي، فتصبح ثابتة في عقل المتلقي، فاللوحة تخاطب المتلقي، متابعاً «قد وصلت للتجريد الغنائي وبدلت، لأنني أخالف الوصول إلى الهندسة، فنحن لا نرى في الأحلام مثلثات ومربعات ودوائر، فهي أشكال تناقض ديناميكيتنا البيولوجية، لذا نرى أشخاصاً وعمارة ونستمع إلى الموسيقى، فاللوحة هي وجود طبوغرافيا صحيحة، كالموسيقى التي نشكلها في نوتات».

وبخصوص الفن العربي، لفت إلى وجود عدد كبير من الفنانين العرب مقلد، وهم يراهنون على عدم معرفة المشاهد، بينما هذه الأمور لا تمر على المختص، موضحاً أنه قدم كتاباً حول المشكلات الأساسية في الفن التشكيلي بالعالم العربي، الذي يعرض الفرق بين الانحياز والاستحواذ، وهناك فرق بين التقليد من دون انتباه بسبب ثقافة غير ناضجة، وبين من يمتص رحيق من يتأثر بهم ويقدمها بأسلوبه. وأشار إلى وجود من لا يملك حماية في الفن، فلا يعرف موقعه، وفي ما إذا كان ما يقدمه حديثاً أو قديماً، فاللوحة يجب أن تكون معاشة. وأشار إلى تقديم الحروف بكثرة كنوع من استجداء الهوية علماً أن شخصيتنا العربية قوية ولسنا بحاجة إلى ذلك، فالميزان الأساسي هو الوجدان.

تويتر