البعض اعتبرها «أزمة ذوق عام».. وآخرون يرونها «مـــــوجة عابرة»

«الأغاني العــــــربية على يوتيوب» فن جديد بلا رقابة

صورة

لسنوات طويلة، حافظت الأغنية العربية على جمالها ورونقها، بعيداً عن التقنيات الحديثة وتكنولوجيا الصوت والصورة، التي أسهمت بالسنوات الأخيرة في رسم واقع جديد للأغنية العربية، وسمحت في المقابل بظهور نماذج فنية عرضية، تُحسب على الفن، وتتعامل بالكثير من السلبية مع مقتضياته، وتضع لها بذلك مسالك تتعارض مع المكتسبات التي تحققت لهذه الأغنية عبر الزمن، وتنأى بشطحاتها عن الإرث الإبداعي، الذي أوكلته الموسيقى العربية لأسماء نقشتها الذاكرة بعمق في أذهان الكثيرين، أتراها حرية شرعت الأبواب على تكنولوجيات جديدة، بعيدة عن الرقابة الضرورية في هذا المجال، أم «مزاج» جديد بات ينخرط فيه الذوق العام؟ «الإمارات اليوم» طرحت الأسئلة المعلقة حول واقع الأغنية العربية على «يوتيوب»، وزحف المنتجات الفنية الهابطة الذي يشهده.

هبة السمت: توجيه الذوق العام

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/03/288459.jpeg

يبقى دور المنصات الترويجية لهذه الأنماط الفنية الدخيلة على الثقافة الفنية العربية محيراً، وبين الدور الذي يمكن أن تضطلع به مقارنة بالشاشات، ومدى تأثيرها في توجهات المتلقي، سألنا هبة السمت، رئيس فرع النادي العالمي للإعلام الرقمي بالإمارات، التي أكدت عدم الاستهانة بدور هذه المنصات الإعلامية الحديثة والمفتوحة، ودورها في توجيه الذوق العام الخليجي والعربي، على اعتبار ما تشي به الإحصاءات الرقمية في هذا الصدد، وأضافت «يجب التعامل مع (يوتيوب)، وغيره من المواقع المجانية التي تعرض مثل هذه المحتويات بجدية أكبر، لما تحمله من تبعات تتعلق بجملة التأثيرات السلوكية التي يقتضيها تصفحها، فموقع يوتيوب مثلاً يعتبر من المواقع الأكثر ارتياداً من قبل فئة الشباب، وذلك لسهولة استعماله وانخفاض الرقابة على محتوياته، إضافة إلى سهولة تداولها وانتشارها، وانعدام المسؤولية التي تتبع استعمالاته، فالمتصفح له حرية نشر ما يروق له، وقضاء وقت لا يمكن حصره في مشاهدة جملة من الفيديوهات والمقاطع التي تولدها المشاهدات المتتالية، إضافة إلى غزارة المحتويات العربية، التي تصل فيها الفيديوهات إلى حدود ٩٣٪ من المحتوى العالمي، الموضوع على (يوتيوب)، حسب الإحصاءات الحديثة، إلى جانب تركيزها بالدرجة الأولى على فئة الفيديوهات الكوميدية والموسيقية، فالشباب الإماراتي ينشر مثلاً ٢٤٪ من المحتوى الموسيقي على (يوتيوب)، فيما يتكفل المصري بـ٢٩٪ منها، و٢٤٪ منها قادم من لبنان، وتنحصر المنتجات المروجة في جملة أغاني الجيل الجديد والموسيقى الخفيفة، التي تنشرها الفئات الشابة، وتتابعها وتتداولها في ما بينها، وهذا (مزاج عام) و(موضة شبابية)، لا تنتظر مواقيت عرض ألبوم جديد، ينزل إلى الأسواق، ولا تجادل في مواعيد مشاهداتها».

في هذا الصدد، يرى الفنان الإماراتي محمد الهاملي أن «(يوتيوب) وسيلة سهلة وغير مكلفة، كما أنها فرصة سانحة لدخلاء الفن، لطرح أعمالهم دون النظر فيها وتقييمها، وهذا من شأنه أن يؤثر في وجود الفنانين الحقيقيين، وسط هذا الزخم الكبير من الادعاءات الفنية الفاقدة للقيمة، والمعتمدة على المؤثرات، ولن يصح في رأيي إلا الصحيح، فللإبداع جنوده، وللفن متذوقوه».

في المقابل، يؤيد الملحن والموزع الموسيقي حسام كامل ظاهرة تسويق الأغاني العربية على «يوتيوب»، ويعترف بأنه لا يعارض فكرة نشر أغانيه عليه، كما لا يحمّل موقع يوتيوب أي ذنب، ويعتبره منصة ترفيهية وترويجية مهمة، استفاد منها الكثير من الفنانين لترويج نتاجاتهم، إلا أنه يضيف: «أجد (يوتيوب) سلاحاً ذا حدين، ففي الوقت الذي يسهم به في إبراز العديد من الوجوه الجديدة، التي لم يتسن لها الظهور، لأسباب مادية ترتبط بتسويق أعمالهم، أو لاقتصار عرض القنوات على إنتاجاتها الخاصة، استطاع هذا الموقع أن يجذر (لظواهر فنية) فاقدة للحس الفني، وبعيدة عن مقتضيات العمل الإبداعي الحقيقي، وقد شكل التفاوت الكمي لهذه الظواهر الفنية منفذاً مهماً، أسهم في جذب فئة لا يستهان بها من (رواد يوتيوب)، الذين تباينت آراؤهم بين مؤيد ومخالف، لكنهم اجتمعوا في كلتا الحالتين على مشاهدتها، وعلى رفع نسب تداولها بين المتصفحين، وتسليط الضوء عليها بشكل أسهم بحركة غريبة في قلب موازين القوى لفائدتها»، حسب حسام الذي أضاف: «وفي تراجع ملحوظ للذائقة الفنية للمستمع، الذي بات يستسهل الأغاني القصيرة، ويهتم بالكلمة الخفيفة على حساب التنويعات الموسيقية والمقدمات الطويلة، ويفضل الإيقاع الراقص على حساب الكلمة، وأنا كصانع أغان أحمّل المسؤولية لكل صناع المنتج الغنائي، وعلى المغني أن يعوّد المشاهد على الارتقاء بذائقته، لكن تغيير الذوق الشبابي الذي انحدر اليوم نحو اتجاهات موسيقية وفنية جديدة لا يمكن مجاراتها، يظل شيئاً لا يمكن تغييره».

وسن مخلوف لا تتابع «يوتيوب» بشكل منتظم، لكنها لا تراه سبباً رئيساً لهذه المساقات الجديدة، التي انخرطت فيها الأغنية العربية بشكل خاص، فهي تحيلها إلى ظاهرة أكبر تحدثت عنها قائلة: «أصبحت مقارباتنا في الجانب المتعلق بالفن تحديداً، كما هي خارجه عموماً، مرتبطة بفلسفة استهلاكية شائعة، تسيطر على المشهد العام، لهذا تغيرت المقاييس، وانحدرت الأذواق نحو مطبات السهولة، فباتت تستهين بجل ما ينتجه الإبداع، ويأتي به المبدعون، مقابل خدر القوالب الجاهزة، وإغراء (الوجبات السريعة) التي أصابتنا بالتخمة ولم تشبعنا»، كما جعلتنا نغفل أهم جوانب العمل الإبداعي، ونغض الطرف عن القيمة الحقيقية التي تؤسس لها هذه الأعمال، بعيداً عن الاعتبارات المادية الجانبية، التي جعلتنا نؤمن بأن ما يسوقه المستفيدون على (يوتيوب) يدخل في إطار الفن الرامي إلى الترفيه عن النفس، وننسى أننا بهذا نستهلك وقتاً، ربما عادل ما استهلكه جهد إنتاج هذه الأنماط الجديدة، التي سرعان ما تزول وتقابل بالنسيان».

وفيما تدافع فئة الشباب عن حضورها على «يوتيوب»، يدق آخرون صفارة الإنذار، ويحذرون من مخاطر شيوع الثقافة المبتذلة، التي تروج بعمق على المنصات الإلكترونية، حيث تقول الإعلامية والناقدة الإماراتية مريم الكعبي «ليس الخوف من شيوع الثقافة المبتذلة، لكن الخوف من غياب الثقافة الحقيقية، وانهيارها أمام طوفان ثقافة التسطيح والإسفاف، فقد أصبح البعض لا يفرق بين البضاعة الرديئة الجيدة، والسبب موجة الرداءة التي اجتاحت الذائقة العربية، وتسببت في تدحرجها نحو فضاءات يصعب فيها التمييز بين ما يصلح وما لا يصلح، لكن علينا أن نركز على نشر ثقافة حقيقية، تعتني بالفنون وتدعم المرتكزات الفكرية، بصناعة مجتمعية تركز على الإنسان، وتجعله قادراً على نبذ التجارب التي تنتهك خصوصية ثقافته العربية وتفردها»، ومن خلال ما عايشته تؤكد الكعبي «ستبقى السلعة الرديئة موجودة والجيدة مستمرة، والمستهلك مُخيَّر طالما اكتسب النوع الأول دعماً إعلامياً وزخماً تسويقياً سيظل تأثيره محدوداً في فئات بعينها، ولا يمكن أن نغفل في هذا الصدد دور الإعلام التقليدي، الذي ظل إلى الآن عاملاً أساسياً للترويج، لأنه يضفي شرعية على هذا الفن وأصحابه، أما «يوتيوب» وغيره، فلا تمتلك تلك السمة الخطيرة، التي تحول التأثير والتأثر إلى ثقافة».

حق الشباب

البعض يرى ضرورة التعامل مع ظاهرة الأغاني العربية الجديدة على «يوتيوب» بأقل حدة وبإيجابية أكبر، فالأذواق متباينة، ولا يمكن التعسف مع الآخر مهما اختلفت آراؤه وميوله عنا، ويبقى من حق الشباب أن يقدم رؤية مختلفة عن الجيل الذي سبقه، وأن يؤسس لأشكال موسيقية وأنماط فنية بعيدة عن الأشكال التي ارتبطت بذاكرة من سبقوه، أما «المنتجات الفنية الغريبة»، التي أصبحنا نراها اليوم على «يوتيوب» أو خارجه فإنها مجرد ظاهرة عابرة ستزول، طالما لم يتشبث بها الناس، ولم يحبوها، كما أنها كفيلة بإحداث الفرق إذا تحدثنا عن وعي المشاهد والمستمع الذي أصبح أكثر وعياً في التعامل مع ما يسوق على الشاشات أو على الشبكات الإلكترونية.

بدائل رخيصة الثمن

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/03/288507.jpg

لا يمكن إغفال الشباب، ولا هذه الأنماط الجديدة، التي فرضها مزاجهم، لهذا ارتأينا أن نقترب من انشغالاتهم علّنا نفهم ما يجول بخواطرهم، وكان جواب الشاب علاء زيدان أن «المسألة تحتمل الكثير من التأويلات والتفسيرات، وإذا تعلق الأمر بالأغاني العربية على (يوتيوب)، فالسؤال هنا يهم موضوع (حقوق الملكية الفكرية») الدخيل على ثقافتنا العربية لأسباب واقعية تتعلق بصعوبة اقتناء النسخ الأصلية؛ كونها منعدمة أو باهظة الثمن، وهذا يجعل الكثير يبحث عن البدائل التي يوفرها (يوتيوب)، والتي أطلقتها شركات عالمية محترفة لتداول استعمال الفيديو عبر الإنترنت والهواتف الذكية، وتحقيق الأرباح المالية الطائلة من الإعلانات التي تعرضها، إلى جانب ذلك هناك تركيز في هذه الفيديوهات الموسيقية على الإيحاءات المغرية، التي تجذب الشباب، باعتبارهم أكبر فئة ترتاد هذه المواقع، وتتداول محتوياتها»، ويضيف زيدان «أتابع (يوتيوب)، وأشجع تداول محتوياته فقد كان ولايزال متنفساً إبداعياً، أسهم في إحياء ذاكرة طالها النسيان، وأنقذ الكلاسيكيات من الاندثار، وشجع تداول أغاني الأرشيف العربي القيم، ووفر لنا فرصة استعادة قدر كبير من إرثنا الموسيقي، وهويتنا العربية».

تويتر