أبوظبي من قصر الحصن إلى المباني الأيقونية (1-3)

بين تحديات البداية وطمــوحات المثالية.. أبوظبي تتشكل

صورة

الأماكن رفيقة الذاكرة، ومخزن الذكريات، وهي الشاهدة على تطور الحياة أو تدهورها، على صعود الأمم وتراجعها. ومن هنا تكتسب الأماكن والمباني معاني ربما لا يلتفت إليها كثيرون، حتى أنها تصبح في كثير من الأحيان سفيراً للهوية وتجسيداً للثقافة المجتمع.

صورة بانورامية

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/12/8ae6c6c54a58663f014a72b21c3e055c3%20(1).jpg

ترى مُرمّمة المباني في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، أمل شابي، أن التنوع العمراني لأبوظبي يظهر في تعدد أشكال وتصميمات البنايات في شوارعها، على سبيل المثال، يمكن من خلال تتبع تطور شكل البنايات في واحد من شوارع أبوظبي الرئيسة وهو شارع اليكترا، تشكيل صورة بانورامية عن تطور ملامح العمارة الإماراتية خلال السنوات الماضية، والتاريخ المعماري لمدينة أبوظبي بدءاً من بناء قصر الحصن وحتى الوقت الحالي، لافتة إلى أن ملامح البناء في كل فترة تختلف عن الأخرى، ففي فترة السبعينات؛ بدأت تظهر البنايات المرتفعة، وتميزت باستخدام الزينة المعمارية مثل المشربيات والشرفات، وجمعت في مواد البناء بين القرميد وهياكل الأسمنت. وفي الثمانينات باتت المباني أكثر ارتفاعاً واستخدمت الموتيفات العربية والإسلامية في بعضها، في حين ظهرت ناطحات السحاب في التسعينات، وتميزت بالبساطة والشفافية واستخدم فيها الزجاج.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/12/8ae6c6c54a58663f014a72b21c3e055c3%20(2).jpg

الواقعية واستشراف المستقبل

أوضح د.عبد الرحمن مخلوف، الذي أسند إليه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مهمة تخطيط المدينة، أن توفير الحياة الكريمة للإنسان والتشكيل الأمثل للمكان، إلى جانب التروي والواقعية واستشراف المستقبل؛ كانت هي الأسس التي اعتمدها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في استراتيجيته لتخطيط وتطوير المدينة، كما كانت من أهم عوامل نجاحه في جعل أبوظبي مدينة متطورة ومتجددة ومتنامية الأطراف من دون الحاجة إلى الكثير من الأمور التي يتطلبها التوسع كالهدم وإعادة البناء من جديد، لأنه وضع لكل مرحلة ما تحتاج إليه، كما أنه لم يغفل عما تحتاج إليه المراحل المقبلة والمستقبلية، فوضع لها ما تحتاج إليه من الخدمات والمتطلبات، لهذا تطورت أبوظبي ونمت رويداً رويداً وعلى أسس وقواعد قوية ومتينة.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/12/8ae6c6c54a58663f014a72b21c3e055c3%20(3).jpg

وفي أبوظبي تكتسب المباني قيمة كبرى، تفوق كثيراً قيمتها الفنية والمعمارية، فهي شواهد على مراحل بناء وتطور العاصمة، وكذلك تطور الفكر والعمل في الدولة، بل وقبل قيام الاتحاد، وهناك مبانٍ كانت شاهدة على نقاط تحول في تاريخ المدينة، وأخرى تحمل دلالات سياسية حيناً أو ثقافية واجتماعية في أحيان أخرى، وهو ما يجعل من هذه المباني جزءاً من الذاكرة الجمعية للمدينة، ومكوناً رئيساً في نسيجها العمراني والثقافي والتراثي، هذه القيمة المتزايدة مع الوقت لمباني المدينة الفتية، رغم أهميتها، ربما تخلق تحدياً ما أمام طموح العاصمة الدائم للتطور والتمدد ومواكبة خطواتها النوعية لترسيخ مكانتها مركزاً ثقافياً وفنياً وسياحياً في المنطقة، وكذلك مواجهة الزيادة المطردة في عدد السكان بما يتطلب أنماطاً معمارية مغايرة.

تتبع التطور العمراني لمدينة أبوظبي لابد أن يعود بنا إلى نقطة البداية، التي كانت في عصر الشيخ ذياب 1761، عندما اختارتها قبيلة بني ياس لتستقر بها لوجود الماء العذب بها، ولأهمية موقعها الصحراوي والبحري، عندما استقر المقام بهم في أبوظبي قام الشيخ شخبوط بن ذياب آل نهيان ببناء قصر الحصن ليكون أول وأبرز بناء فيها. ومنذ ذاك الوقت يحتل قصر الحصن مكانة كبيرة في تاريخ أبوظبي، خصوصاً أنه بقي مقراً للحكم على مدار قرنين من الزمان، ومن الطبيعي أن يكون قد شهد الكثير من الأحداث، بدءاً من عام 1833 إلى عام 1855 حيث كانت أبوظبي مشيخة رائدة على ساحل الخليج العربي. ويتميز المبنى باختلاف المواد المستخدمة في تشييده، إذ استخدم لأول مرة في بنائه الإسمنت وخشب «الشندل» من إفريقيا وأحجار المرجان (بيم). واستغرق البناء نحو ثلاث سنوات. وكان الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان آخر من سكن هذا القصر، وعندما تولى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الحكم، اتخذ من القصر مقراً لحكومة الإمارات، وحالياً يشهد قصر الحصن احتفالاً سنوياً به من خلال «مهرجان قصر الحصن»، كونه يمثل رمزاً لهوية أبوظبي الأصيلة، ويحمل دلالة خاصة باعتباره حجر الأساس الذي قامت عليه العاصمة، ويرمز لنحو 250 سنة من التراث الإماراتي والتطور الثقافي.

وفي العصر الحديث، تم تخطيط أبوظبي على مراحل مختلفة، واكبت كل مرحلة منها تطوراً جديداً طرأ على المدينة، وجاءت لتلبية حاجتها إلى المزيد من النمو والتطور، وهو ما يجعل التكوين المعماري يبدو مثل «طبقات متتالية»، وهو أمر شائع في معظم المدن، كل طبقة تعبر عن مرحلة بعينها بكل ما تحمله من ملامح.

وبشكل عام بدأ التخطيط العمراني لأبوظبي الحديثة في بداية الستينات، لتنتقل من الأحياء القديمة التي نشأت مع الوقت حول قصر الحصن، وكانت موزعة وفقاً للقبائل المقيمة في المدينة بحيث يتجاور أبناء القبيلة الواحدة في حي واحد، كما اتسمت البيوت في تلك الفترة بالبساطة الشديدة، وهو ما كان يتناسب مع المناخ العام وقتها، ومع بساطة الحياة والناس.

ويوضح الدكتور أحمد صادق، من مجلس أبوظبي للتخطيط العمراني، أن تطور أبوظبي منذ الستينات مر بستة مخططات، والسابع قيد التنفيذ حالياً، مشيراً إلى أن بداية مدينة أبوظبي كانت في عصر الشيخ ذياب. أما أول تخطيط عمراني رسمي لأبوظبي فكان في عام 1962، وكان عدد السكان في ذاك الوقت 4000 نسمة، وركز المخطط على تحسين نوعية الحياة في المدينة وإنشاء مركز إداري جديد، وتم فيه استحداث أحياء سكنية غربية الطابع بدلاً من الأحياء التي كانت مقسمة وفقاً للقبائل المقيمة في المدينة. في حين ركز المخطط الثاني على إقامة شبكة طرق وتوفير بنى تحتية للشوارع، وتم إنشاء مركز للوزارات، وفي 1968 تم تعيين المهندس عبدالرحمن مخلوف الذي قام بإنشاء دائرة التخطيط العمراني، وفي تلك الفترة تم إنشاء معالم بارزة عدة في المدينة، مثل المجمع الثقافي ومدينة زايد الرياضية ومنطقة النادي السياحي، وظهرت البنايات المرتفعة على أطراف الأحياء، في حين كانت الفلل والمساكن المنخفضة في الوسط، مشيراً إلى أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان يشرف على كل مخططات أبوظبي العمرانية بنفسه.

تطور إعمار أبوظبي عبر مراحل عدة، شكل كل منها نقلة مهمة، يشير إليه الدكتور عبدالرحمن مخلوف، الذي اسند إليه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مهمة تخطيط المدينة، وعينه مديراً لتخطيط المدن عام 1968، موضحاً في دراسة أجراها عن أبوظبي إلى أن المدخل المؤدي إلى القراءة العلمية الصحيحة لتاريخ المدينة ومكوناتها يعتمد على التعرف إلى المراحل العمرانية المتتابعة، وتعريف كل منها بعنوان يعبر عن مضمونها، وعن الأنشطة الرئيسة التي اتسمت بها هذه الفترة. وبصفة عامة، اعتمد تصور المغفور له الشيخ زايد لتطوير المدينة على أهداف ومبادئ يمكن تلخيصها في بعدين متكاملين هما توفير الحياة الكريمة للإنسان والتشكيل الأمثل للمكان. وحدد مخلوف في الدراسة مراحل تخطيط وتطوير المدينة بست مراحل: الأولى هي المرحلة التمهيدية لتحديث مدينة أبوظبي من 1961 إلى 1968، ثم مرحلة التأسيس الشامل 1968 - 1974، وتعد المرحلة الثالثة من 1974 ـ 1977، مرحلة الانطلاق في كل المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والإدارية، في حين بدأ التوسع رأسياً وأفقياً داخل جزيرة أبوظبي وخارجها في 1978 ـ 1989، بما يمثل المرحلة الرابعة، واعتبر مخلوف المرحلة الخامسة هي مرحلة التغيرات الداخلية وزيادة التوسع الخارجي، بينما بدأت المرحلة السادسة في 1989، وأطلق عليها مرحلة تكوين مدينة أبوظبي الكبرى، وهي مستمرة إلى الآن.

ويروي د.مخلوف واقعة تعبر عن تصور المغفور له الشيخ زايد لأبوظبي؛ جرت في لقاء مع المغفور له الشيخ زايد في قصر البحر عام 1974، قائلاً: «كان موضوع اللقاء تسمية الطرق الرئيسة (الشوارع) في أبوظبي. واختار الشيخ زايد الأسماء المعروفة الآن في المدينة، وهي في مجملها ذات دلالات حكيمة: الوفاء للأجداد من آل نهيان، وتأكيد الإحساس بالمدى الجغرافي لأبوظبي، شوارع مهمة بأسماء أماكن جغرافية: دلما، بني ياس، البطين. ومن المعاني الدالة على أهدافه نحو أبناء وطنه اختياره اسماً فريداً لأحد أهم شوارع أبوظبي (شارع السعادة)، وهذا يذكرني بما قاله أرسطو عن المدينة المثالية؛ أن تكون بجانب تأدية وظيفتها الأساسية وهي (توفير المأوى والحماية لسكانها)، مصدراً لسعادة الإنسان».

من هذه البداية، انطلقت أبوظبي في رحلة تطور عمرانية تحولت فيها من المدينة المثالية التي توفر لسكانها المأوى والحماية والخدمات، وتتسم بالهدوء والبساطة من دون أن تخلو من جماليات البناء، إلى مدينة تطمح إلى أن تصبح مركزاً عالمياً، وتنافس مدن العالم بما تتضمنه من مبانٍ أيقونية فريدة صممها أكبر معماريي العالم على الإطلاق وأكثرهم شهرة وإبداعاً في هذا المجال.

تطور

مرت أبوظبي بمراحل تطور عمرانية مختلفة خلال العقود الماضية تحولت فيها من المدينة المثالية التي صممت لتمنح سكانها المأوى والحماية والخدمات، وتتسم بالهدوء والبساطة من دون أن تخلو من جماليات البناء، إلى مدينة تطمح دائماً إلى أن تصبح مركزاً عالمياً، تضم نماذج فريدة من العمارة الأيقونية.

معالم بارزة

في فترة الثمانينات تم تأسيس لجنة خليفة التي أوصت بتوزيع قطع أراضٍ على المواطنين، وفي عام 1988 قام مجلس أبوظبي التنفيذي بوضع خطة عمرانية جديدة، نصح من خلالها بتوسع المدينة إلى جزر السعديات والريم، من أجل تخفيف الكثافة السكانية التي تتمحور في المناطق المركزية من أبوظبي. وأدى عدم توافر قطع الأراضي، وزيادة الطلب على السكن في المدينة، بحسب ما أشار «دليل أبوظبي: العمارة الحداثية، 1968-1992» الصادر عن جامعة نيويورك أبوظبي، إلى أن تأخذ المدينة شكلا عمودياً على نحو متزايد، وفي عام 2007 أنشأت الحكومة مجلس أبوظبي للتخطيط العمراني، من أجل تقديم رؤية واضحة لمستقبل مخطط أبوظبي بحلول 2030، وجسدت الديمومة وقوة تحمل المنشآت، أحد اهم مبادئ الخطة، التي تمتد من واقع البيئة الطبيعية، إلى التنمية الاقتصادية، والحفاظ على الموروث.

وخلال مراحل تطورها؛ استقر في أبوظبي العديد من المهندسين المعماريين الحداثيين، ومن ضمنهم هناك معماريون مجهولو الهوية، قاموا بتصميم مبانٍ مثيرة استلهموا أفكارها من مشروعات دولية، بالمقابل، كما يذكر الدليل، كان هناك مهندسون معروفون، جاؤوا إلى المدينة وتركوا بصماتهم عليها، منهم المهندس الياباني كيشو كوروكاوا، وهو أحد كبار ممثلي حركة ميتابوليست، الذي قدم عام 1975 اقتراحاً ببناء مدينة للمؤتمرات، غير أن المشروع لم يرَ النور، وفي عام 1988 قام بتصميم جامعة العين الجديدة، وفي تصميمها دمج بين عناصر دولية ومحلية.

هناك أيضاً الشركة الأميركية «ذي اركيتيكس كولابوراتيف» التي أسسها المعماري الألماني والتر غروبيوس، وقامت بتخطيط المجمع الثقافي في 1979. بينما قام المهندس جعفر طوقان بتصميم وزارة المالية عام 1979، وعُهد إلى المهندس المعماري العراقي رفعت الجادرجي بمسؤولية مسرح أبوظبي الوطني. وتولى المهندس المعماري الفرنسي روجيه تاييبير تخطيط نادي ضباط القوات المسلحة في 1987، الذي يعد تعبيراً آخر عن الحداثة المعمارية الإماراتية، كما يعد مظهراً من مظاهر الإبداع المتعدد الإلهامات، إلى أن صار الآن من معالم أبوظبي.

 

تويتر