انطباعات متحيّزة عن المكان وناسه «1ـ 2»

سريلانكا.. طبيعة سخية بعيداً عن الأفيال

كاندي تتميز بطبيعتها الخلابة مثل معظم المدن السريلانكية. الإمارات اليوم

من شباك الطائرة، تبدو المدينة قبة خضراء عملاقة، شديدة الكثافة، وتصير لحظة الاكتشاف الأولى في كولمبو، لوحة ممتدة على مرمى البصر، ملونة بالأخضر الصريح، سيد الألوان هنا في سريلانكا، وليس في العاصمة فحسب، ومن بعيد تظهر أشجار سامقة كأنها تلوّح للزائر، وتلقي عليه تحية صباحية، وابتسامة أولى، سيعقبها الكثير من الترحاب، في بلد يوصف أهله الطيبون بـ«الشعب البسّام».

بسطاء

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/04/6.jpg

من حظ من يراقب صباح العاصمة السريلانكية، أنه سيصادف مشاهد لن يراها هواة السياحة المتأخرة نهاراً وليلاً، إن جاز التعبير، أبطالها بسطاء، بسيقان نحيلة، وأدوات بسيطة، ينظفون بحماسة شوارع مدينتهم، ثنائيات من الرجال والنساء: هو وهي، هو يحمل مكنسة شبه بدائية، وهي تجرّ عربة حديدية ينبعث صوتها لتجميع ما يكنسه مرافقها، أو يتبادلان الأدوار.

زحام

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/04/425%20(3).jpg

تجتذب سريلانكا العديد من السياح الخليجيين والعرب، ويعد الخليجيون أصحاب وجود مكثف هناك، إلا أن البعض يتمنى أن تعزّز الحكومة السريلانكية من مرافق البنية التحتية خصوصاً الطرق، التي تعاني ازدحاماً شديداً، لاسيما في أوقات الذروة بالعاصمة كولمبو، مشيرين إلى أنهم لذلك يفضلون قضاء يومين على الأكثر في العاصمة، ثم يتوجهون إلى أماكن أخرى أقل ازدحاماً، بعيداً عن كولمبو، مثل كاندي التي تتميز بطبيعة ساحرة، وجو مختلف، وكذلك غالي، وبادولا، وكورنيغالا، وغيرها من المدن التي تتميز بتنوع شديد، ما بين البيئات البرية والبحرية، في بلد تشبه خريطته شكل الكمثرى، أو حتى قطرة ماء من هبة الطبيعة.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/04/884%20(1).jpeg

بجوار منزل الرئيس السريلانكي في العاصمة كولمبو، يطالع الزائر لافتة كبيرة لشركة الاتصالات الإماراتية التي تعمل في السوق السريلانكية. وعلى مسافة قريبة منها ثمة ملمح إماراتي ثانٍ يتجلى في فندق كلدراي، الذي يقع في مكان متميز في العاصمة.

كما تعد سريلانكا وجهة للعديد من الإماراتيين الذين يرونها مكاناً متميزاً، حافلاً بطبيعة خاصة، ومقومات تجعله يفوق الكثير من الوجهات الشهيرة التي تحتل صدارة المشهد السياحي، على الأقل في آسيا.

«دخول المدن أول مرة نهاراً أجمل».. ربما هكذا ينصح رحّالة رومانسيون اعتادوا «امتطاء» الطائرات في جهات العالم، لكن دخول مدينة مثل كولمبو وهي تصحو من نومها فجراً أكثر جمالاً لمن أراد، حتى وإن كانت رحلة المرء طويلة، لم يذق فيها طعم النوم، إذ يكفي نصف النائم كوب من الشاي السيلاني القوي، كي يودع الخدر، ولا يفوّت صباحه الأول الحافل بالمشاهدات في العاصمة السريلانكية.

على الأرض، سيبقى الأخضر هو السيد أيضاً، بداية من لحظة الخروج من مطار كولمبو، وحتى الوصول إلى قلب العاصمة، عبر طريق يحتاج إلى نحو نصف ساعة (لو كنت سعيد الحظ، لكنه غالباً سيطول أكثر من ذلك)، مسيّج بغابات كثيفة، وشجر ضخم كأنه أقدم من الإنسان هنا، سبقه إلى «جنة الأرض»، ومدّ جذوره منذ آلاف السنين في «جنة آدم»، حسب أوصاف بالجملة لبلد شهد مسميات عدة على مدار تاريخه (سرنديب وسيلان وسريلانكا).

حتى ولو كنت ابن ريف عربي، تربيت وسط حقول ومزارع، ستشاهد هنا خضرة مغايرة، تجعلك تعيد النظر، ليس بسبب طبيعة سريلانكا، وجبالها الفائضة بالجمال والجداول، والمنازل المنثورة بتدرج، ففي كولمبو لا توجد حتى تلال، والعاصمة تتميز بانبساطها، ورغم ذلك تطالع العين الأخضر مختلفاً، كأنه هبة سماوية.. طبيعة سخية، وزهور بالجملة متداخلة الألوان، وليست النيلوفر (زهرة سريلانكا الغالية) فحسب، زهور تحتاج إلى أن تلمسها لكي تصدق أنها حقيقية، وطيور تعزف ألحانها العفوية على العشب، أو على الأشجار العالية القريبة من السحاب، وربما لو أخرجت عملات البلد وظللت تأمل أوراقها المختلفة، سترى الكثير من الطيور، وستسعى للتعرف إلى مسمياتها، وكأن الطبيعة لم تدع تفصيلة في سريلانكا إلا ومنحتها ملمحاً منها، بعيداً عن الأسد المنتشي على العلم، والأفيال التي يسافر كثيرون إلى سريلانكا من أجلها تحديداً، لاسيما أن من بينها أفيالاً بقصص مأساوية، تضررت من الحرب الطويلة (بين الجيش ونمور التاميل) التي شهدتها سريلانكا، مثلها مثل الإنسان تماماً.

في لوحات الفلكلور السريلانكي، تحضر أيضاً الطبيعة وكائناتها، فمن يشاهد أحد العروض الراقصة، سيرى طيوراً تحلّق، وكائنات (أنثوية) مزينة بمناقير وريش وأجنحة، توزع الابتسامات بشتى النكهات، وتقفز برشاقة مدربة على أطراف أصابعها، كأنها تؤدي «باليه» سريلانكياً، يحمل شكل البلد الخاص، واللافت هنا أن ثمة محاولات للنهوض الذاتي، مشروع مستقبلي بسواعد سريلانكيين، تبدو بصماتهم في كل حيز، حتى في اختيارهم لاسم فندق راق كـ«سينامون» (القرفة)، ففي جزيرة التوابل، لابد أن توحي الأمكنة التي تستقبل الزوار والسائحين بنكهة خاصة، تبقى عالقة في الذهن. ويجمع فندق «القرفة» بين نمطين، يمزج بين السياحة الفاخرة، ولمسة أهل البلد المتواضعة، وكذلك معظم مفرداته، تحمل عبقاً سريلانكياً، بداية من الفتاة التي تستقبلك بسارٍ زاهٍ، ووردة، وابتسامة غير مصطنعة، وانحناءة خفيفة، مروراً بوردة النيلوفر التي ستجدها بانتظارك على مخدة السرير، وصولاً إلى الفواكه الاستوائية التي تنتمي إلى غابات سريلانكا، وجنتها البكر.

تحفل الطرق داخل العاصمة، بشاحنات مزدحمة، مزينة برسوم تقليدية، وآلاف – إن لم يكن أكثر - من «التوك توك»، وعلى جانبي الطريق ثمة تماثيل بوذية ومعابد صغيرة وكبيرة، كل مسافة قصيرة، ومجسّمات أفيال، وأباريق شاي ضخمة، وصور للرئيس الحالي، وكذلك بقايا لافتات لمرشحين في الانتخـابات البرلمانية الأخـيرة.

من حظ من يراقب صباح العاصمة السريلانكية أيضاً، أنه سيصادف مشاهد لن يراها هواة السياحة المتأخرة نهاراً وليلاً، إن جاز التعبير، أبطالها بسطاء، بسيقان سمراء نحيلة، وأدوات بسيطة، ينظفون في صمت شوارع مدينتهم، ثنائيات من الرجال والنساء: هو وهي، هو يحمل مكنسة شبه بدائية، وهي تجرّ عربة خشبية لتجميع ما يكنسه مرافقها، أو يتبادلان الأدوار.

هذا المشهد الصباحي المبكر، يتكرر داخل المدينة، وحتى على الشاطئ، فثمة عمال يؤدون دورهم، وينظفون «طرح البحر» حتى ولو كان صغيراً.

ربما تكون هذه انطباعات متحيّزة، عن أناس يؤدون عملهم المعتاد، استدعتها مقارنات بحالات عربية، لكن المشهد يستحق، لاسيما حينما يجد المرء شوارع كثيرة في كولمبو شديدة التواضع، وربما منزوعة الرصيف مهدّمة، لكنها نظيفة، تترك القدم أثرها فيها، بفضل هؤلاء العمال المخلصين، وسيلاقي الزائر للبلد مثلهم كثيرين، سواء من يتعامل معهم بشكل مباشر، أو حتى آخرين يرونه جديراً بالتحية، و«السلام عليكم»، في حال نطقت ملامحه بأنه عربي.

مشهد صباحي مكرر أيضاً، لكن هذه المرة أمام أماكن العبادة الخاصة بالبوذيين، الذين يشكلون أغلبية أهل البلد، إذ يقف كثيرون، ليؤدوا طقساً تعبدياً في خشوع للحظات، ويلتمسون الزيت «المقدس» من على باب المعبد، ثم يواصلون الطريق إلى عملهم، غير متذمرين من شخص يسجل المشهد، ربما يفسد عليهم جلال المشهد. وقد تجد حافلة تقلل سرعتها أمام أحد المعابد التي يتصدرها تمثال كبير، ويقفز منها شاب عشريني، لا يهاب الوقوع أو تزل قدمه فتكون العواقب وخيمة، ليلتمس الزيت ويؤدي طقسه ويلحق بالحافلة، يحدث ذلك كله في لحظات، فربما لو فاته ذلك لظل طوال اليوم مؤرقاً، ولذا يحترم ركاب الحافلة المختلفين في الدين ربما، وكذلك سائق الحافلة، ما يصنع، ويساعدونه على ذلك.

مع الناس مازلنا، أكثر من المكان، إذ يستشعر الزائر أن ثمة اتفاقاً عاماً بين كثيرين من أهل البلد، بأن الاحترام طبيعة هنا، والابتسامة مخلوقة على الوجه، وليست شيئاً مبتذلاً يبحث عن «ثمن»، قد تجد متطفلاً هنا، أو هناك، في شارع جانبي، لكن ذلك استثناء، على الأقل من مشاهدات عابرة، لبلد كبير، يستحق إجازة طويلة حتى يحيط المرء، بالدوران حول مدنه، في الداخل، وعلى الساحل، في حي راق بالعاصمة كولمبو، وكذلك في شوارعه الخلفية، والأسواق الشعبية المكتظة بالبشر وروائح التوابل والشاي والقهوة.


مصنع شاي ومدينة على جبل أخضر

الطريق إلى «كاندي» ليس أقل جمالاً من المدينة ذاتها، التي تبتعد عن العاصمة كولمبو بنحو 100 كلم، لكن يستغرق الوصول إليها وقتاً طويلاً نسبياً، بسبب أن الطريق ضيقة، ولا يسمح فيها بالسرعة التي لن تتاح من الأصل، بفعل الازدحام، وكذلك تعرّج الطريق الشديد، لاسيما في رحلة الصعود إلى المدينة التي ترقد على جبل من اللون الأخضر، تقطعه أنهار وينابيع مائية.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/04/425%20(4).JPG

إحدى العاملات في مصنع الشاي على الطريق إلى كاندي. الإمارات اليوم

الطريق التي تحفها الأشجار على الجانبين كمظلة خضراء، حافلة بالتفاصيل، فثمة تجمعات بشرية تنتظر الرزق من العابرين، الذين قد يستريحون هنا أو هناك، ولا تخلو الطريق بالطبع من المعابد، ودور العبادة الصغيرة المزينة بشتى أنواع التماثيل. وعلى جانبي الطريق أيضاً بسطات باعة ومحال، لثمار الباباي والأناناس وجوز الهند وغيرها من الخيرات التي أتت من شجر على الجانبين، أو من غابات قريبة، تبدو بلا نهاية في الأفق، أو حتى على الجبل، خصوصاً حينما يدنو الزائر من الوصول إلى كاندي الجميلة.

من ملامح الطريق أيضاً محال تعرض مبتكرات لأهل البلد، وأشياء صنعت بأيد سريلانكية، مشغولات يدوية، مطرّزة بطبيعة هذا البلد، ومعالمه المختلفة، وكذلك برموزه، وأسماء مدنه التي تتميز كل واحدة منها بملامح خاصة، حتى وإن استوت أغلبيتها في مزارع الشاي، والخضرة الممتدة، والأفيال، وكذلك الطبيعة الجميلة، السمة المشتركة بين معظم الأمكنة.

قبل كاندي بقليل، يستريح العديد من الحافلات في مصنع للشاي، وصفة مصنع، ربما توحي للبعض، بمبنى شديد الضخامة، تعلوه مداخن كبيرة، ومحاط بسور كبير، ومئات العمال، لكن الواقع هنا غير ذلك، فمصنع الشاي، مثل منزل ضخم يحتمي بالجبل، ويساير انحناءاته، مشيّد على طوابق عدة، كل واحد منها يمثل مرحلة ما لكيفية صنع الشاي، بأنواعه المختلفة الكثيرة في بلاد الشاي سيلان، ويشاهد الزائر كيف يتم جني أوراق الشاي، حتى مرحلة التغليف، وكذلك سيجد مكاناً في كافتيريا المصنع بالطابق الأرضي، يضيّفه أولاً، ويجعله يختبر أنواعاً ربما لم يذق نكهاتها من قبل، ليختار لو أراد النوع الذي يفضله، ويتفنن المصنع في صنوف التغليف، لتصير العلبة تذكاراً يحتفظ به الزائر، ولتذكره بجانب من رحلة صعوده إلى كاندي، وزيارته لمصنع شاي، لا يتخلى عماله عن الابتسامة، وربما تطوعت إحدى العاملات بمرافقة الزائر، لتشرح له بإسهاب المراحل المختلفة للشاي، بل والحديث عن فوائد أنواعه المختلفة، وكأنها طبيب من زمن مضى، يداوي بالأعشاب، ويدرك بيقين أسرار ما تنبته طبيعة بكر، كما في الفيديو المرفق بالمادة.

يصل الزائر إلى قمة كاندي، ليرى المدينة كاملة، بأنهارها، وبيوتها النائمة في دعة، وأخضر الجبل الذي يتشكل بدرجات مختلفة مع ساعات اليوم. ولا تخلو المدينة، ذات الطقس المعتدل مقارنة بالعاصمة، من أسواق أرخص سعراً، وأمكنة عدة جديرة بالزيارة، تجعل من لا يملك وقتاً يتحسّر على حاله، ويعتزم أن يفرد لها زيارة خاصة، لأنها تستحق.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/04/425%20(2).JPG

تويتر