المكان لوحة تجمع الأصل العريق بالمدنية الحديثة

«مهرجان قصر الحصن» رحلة إلى أبوظــبي القديمة

صورة

ما إن يدخل الزائر البوابة الكبيرة لمبنى «المجمع الثقافي» القديم؛ حتى يشعر أن عجلة الزمن عادت به سنوات طويلة للوراء، أو كأنه استقل آلة الزمن لينتقل بها إلى فترة الخمسينات، في قلب أبوظبي القديمة ما قبل اكتشاف النفط، بكل ما تمثله من بساطة وأصالة، لتشكل مع البنايات الحديثة ومظاهر العمارة العصرية التي تحيط بالمكان من كل اتجاه، لوحة فنية تعبر عن جوهر دولة الإمارات، الذي يجمع بين القديم والحديث، الأصالة والمعاصرة، جنباً إلى جنب دون تعارض او تضارب.

وعبر مجموعة من اللوحات التراثية التي تتآلف فيها عناصر فنية متعددة، جسدت فعاليات مهرجان قصر الحصن التي انطلقت الخميس الماضي، وتستمر حتى التاسع من الشهر الجاري، بمناسبة الاحتفال بمرور ‬250 عاماً على انشاء قصر الحصن، معالم أبوظبي القديمة، يتوسطها قصر الحصن أقدم صرح تاريخي في أبوظبي.

في الساحة الممتدة؛ يقف البحر في استقبال زوار المهرجان، حيث خلقت فنون الإضاءة والصوت بحراً وسط الرمال يتوسطه مركب رافعاً شراعه، يستعد للإبحار، وحوله انتشرت معالم الحياة البحرية وما ارتبط بها من حرف وفنون، فجلس بعض الصيادين يصنعون شباك الصيد و«القراقير»، أو يصلحونها، وإلى جانبهم انهمك آخرون في صناعة «محمل» جديد قرب مجلس النواخذة، حيث اعتاد البحارة ان يجتمعوا حول قائدهم للتباحث في أمر البحر والرحلات ومواعيد الخروج للصيد أو الغوص.

تاريخ اللؤلؤ

أما تاريخ اللؤلؤ، وكيفية صيده وكل ما يتعلق به من تفاصيل، فيتعرف إليها الزائر من خلال «متحف اللؤلؤ» الذي اقيم في وسط المنطقة المخصصة للحياة البحرية، بداية من الاساطير التي نسجت حول نشأة اللؤلؤ، حيث كان يعتقد انه يتكون في ليالي اكتمال القمر او عند سقوط المطر، حيث تسبح محارة اللؤلؤ من القاع إلى سطح البحر وتفتح صدفتها، لتتلقى ضوء القمر أو قطرات المطر او البرد، ومنها تتكون لؤلؤة جميلة، ثم تعود المحارة إلى قاع البحر من جديد لتستقر فيه. أيضاً يضم المتحف نبذة عن تاريخ صيد اللؤلؤ في أبوظبي، والذي يشير إلى العثور على آثار تدل على معسكرات الصيادين في جزيرة مروح ترجع إلى ما يقرب من ‬6000 عام، إلى جانب العديد من الأدوات التي كانت تستخدم في الغوص وصيد اللؤلؤ، مثل بدلة الغوص والفطام وهو قطعة من عظام السلاحف كانت توضع على الانف أثناء الغوص، والقرط وهو نبات لدهن الجسم للوقاية من الأمراض الجلدية، والمدبعة وهو وعاء من ثمرة جوز الهند كان يوضع فيه القرط. والمزماة ويقصد بها السلة التي يوضع بها المحار. وغير ذلك من ادوات الصيد وفلق المحار، والموازين التي كانت تستخدم لوزن اللؤلؤ. ويرافق ذلك معرض للصور عن رحلات الغوص وعرض فيديو لفيلم تسجيلي.

حكايات الجدات أيضاً لها مكانها في المهرجان من خلال «بيت الخراريف» الذي يجلس فيه الاطفال الصغار يصغون باهتمام لميرة خليفة، وهي تروي لهم الخراريف القديمة، مثل «فاطمة وأبوها عبدالعزيز»، و«دموع شما»، و«الطير والقلادة»، و«حمامة نودي نودي».

السوق القديم

بعدها ينتقل الزائر إلى السوق التراثي القديم الذي صنعت محاله من السعف مثل العريش، لتبدو متآلفة مع اجواء المكان والمهرجان، وفي هذه المحال تعرض كل السلع التي كان يتداولها الآباء والأجداد في اسواقهم القديمة، وارتبطت بالحرف اليدوية التي مارسها السكان، بداية من «المالح» ويعني الاسماك المملحة والمجففة التي كانت تمثل وجبة مهمة للسكان في ذلك الوقت، نظراً لان الصيد والغوص كانتا المهنتين الرئيستين للسكان، وإلى جانب محل الاسماك، وقف بائع الأصداف والمحار واللآلئ يعرض مصنوعات وقطع اكسسوارات مصنوعة من المحار والأصداف الطبيعية. ثم السلع التي تعتمد على الحرف اليدوية والمشغولات التراثية كالسدو والتلي وملابس السيدات التقليدية، والعطور والتمور، وغيرها من المنتجات. كما تضمنت منطقة السوق، التي تعكس نمط الحياة التقليدية في جزيرة أبوظبي، ورش عمل لتعليم الحرف اليدوية، ولنقش الحناء ومناطق الألعاب التقليدية للأطفال. كما انتشرت في أنحاء السوق المطاعم التقليدية التي شيدت هي أيضاً من الخشب والسعف، أما روادها فقد جلسوا على بسط فرشت على الأرض، وتوزعت عليها موائد صغيرة وجلسات عربية.

دائرة الشرطة

تتوسط السوق دائرة الشرطة، التي اتخذت الشكل القديم نفسه الذي كانت عليه في فترة الخمسينات، وبالتحديد عام ‬1957، حيث انشئت دائرة الشرطة في عهد الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، بحسب ما اوضح العقيد سيف الشامسي، المشرف على مركز الشرطة في مهرجان قصر الحصن، الذي وقف يتلقى التحية من أفراد الشرطة بزيهم القديم الذي يعود إلى التاريخ ذاته، قبل ان يتفرقوا في السوق للقيام بمهامهم في الحراسة وتفقد الأحوال.

وأشار العقيد الشامسي إلى ان الدائرة تماثل مركز الشرطة الذي كان قائماً في داخل قصر الحصن في ‬1959، وكان يقع في شمال القصر، ويضم ثلاثة مكاتب، الأول للقائد والثاني لمساعده، اما المكتب الثالث فكان لنائب القائد، وخلف المركز كان هناك سكن لأفراد الشرطة، وزنزانة للحبس ومخزن. وكان عدد أفراد الشرطة في المركز ‬150 فرداً، مهمتهم حراسة القصر، والقيام بدوريات في المنطقة المحيطة وعلى شاطئ البحر، كما كانوا يقومون بالدوريات في السوق، واحضار المتشاجرين إلى المركز والقبض على المطلوبين، كما كان المركز يمتلك سيارتي رانج روفر تعودان لعام ‬1957، مشيراً إلى ان العرض الذي يقدم يومياً طوال أيام المهرجان العشرة، يقوم به مجموعة من طلاب كلية الشرطة حالياً.

«زهوة الأوطان»

بينما يسير الزائر في السوق؛ تتناهى إلى سمعه أصوات الطبول، معلنة بدء العرض التقليدي الذي يقام على المسرح مساء كل يوم، حيث يتجول العرض الذي يحمل عنوان «زهوة الأوطان» بين البيئات المختلفة في أبوظبي والإمارات الاخرى، مستعرضاً بالشعر النبطي والرقصات الشعبية معالم كل بيئة، مثل الواحات والصحراء والبحر، ويتغنى الشاعر خلال العرض بمواصفات أهل المنطقة وما يشتهرون به من الكرم والاحتفاء الشديد بالضيف، ثم ينتقل إلى بيئة الصحراء ليتغنى بالشجاعة والإقدام وافتداء الوطن والديار بالروح، تصاحبه رقصة الحربية، وفي لوحة تمثل البحر قام أعضاء الفرقة بجذب محمل إلى المسرح كأنه يستعد للإبحار على نغمات صوت البحارة، وهم يرددون هايامال، وتتوالى أغنياتهم التي تصاحب مختلف مراحل الرحلة، مثل التجديف والصيد والخطيفة ورفع الشراع استعداداً للعودة، حيث يستقبلهم الأهل والسكان بفرحة غامرة على نغمات رقصة العيالة.

أما اللوحة الأخيرة في العرض فحملت عنوان «أبوظبي - قصة قصر الحصن»، وفيها لعبت التقنيات الحديثة في الاضاءة دورا كبيرا في تحويل مبنى قصر الحصن من خلفية للعرض ليصبح محوراً له، وتتحول نوافذه وجدرانه لتكتسي بالوان الصحراء تارة او البحر تارة اخرى، يصاحبه صوت الشاعر مردداً «قصر مشيد بالعز والمعاني... رمز الشموخ للعز أول وتاني».

معرض قصر الحصن

للتعرف إلى المزيد من التفاصيل حول تاريخ «قصر الحصن»؛ يتوجه الزائر إلى «معرض قصر الحصن» الذي يقام بالتعاون بين هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة والمركز الوطني للوثائق والبحوث، ويضم المعرض ثلاث مناطق، الأولى تركز على قصر الحصن وتطوره تحت عنوان «من برج مراقبة إلى حصن منيع»، وفي هذا القسم تعرض مجموعة نادرة من الصور التي تحكي تاريخ الحصن، وتعكس المكانة المميزة التي حظي بها في تاريخ أبوظبي والمنطقة عبر مراحل التاريخ المختلفة، سواء كمقر للحكم او مكان لاستقبال كبار الشخصيات، وايضا مكان للاحتفالات في المناسبات المختلفة، من بينها صورة تعود إلى عام ‬1948، ويظهر فيها الرحالة ويفريد ثيسيجر مع أربعة من شيوخ الإمارات خلال استراحته في أبوظبي، بعد عبوره صحراء الربع الخالي للمرة الثانية، وفي صورة أخرى تعود إلى عام ‬1953 يظهر الشيخ زايد والشيخ هزاع والشيخ خالد بن سلطان آل نهيان في المجلس الذي يقع عند أسوار القصر، بينما يظهر الشيخ شخبوط بن سلطان في صورة منفردة وهو يقف أمام قصر الحصن في صورة التقطها له ممثل شركة النفط البريطانية عام ‬1962. وصورة أخرى تعود للعام نفسه، لكنها تظهر احتفالات السكان بالعيد أمام القصر، في حين جسدت صور أخرى صلاة العيد، وسباقات الهجن، وغير ذلك من مظاهر الاحتفال، كما عرضت صورة تظهر بعض البدو يجلسون خارج قصر الحصن في انتظار الدخول إلى مجلس الحاكم لحل نزاع بينهم.

وفي صورة تعود إلى عام ‬1977 ظهر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وحكام الإمارات في مقر المجلس في القصر، حيث شيدت غرفة خاصة مقراً للمجلس في القصر، وعقدت في المبنى جلسات مجلس الشورى الوطني والمجلس الوطني الاتحادي منذ ‬1971، وفي صورة اخرى تعود للعام ذاته، جلس الشيخ زايد يناقش مخططات ترميم وتهيئة قصر الحصن. كما تضمن المعرض مدفعاً من مجموعة القطع التي نصبت لحماية قصر الحصن، ويرجح انه يرجع إلى مطلع القرن التاسع عشر، وكانت المدافع تستخدم لحفظ الأمن والسلامة وأيضاً في الاحتفالات، وكان يقذف قذيفة متفجرة وزنها كيلوغرام واحد، وتضاعف الوزن بمقدار اربع مرات بعد توسعة ماسورة التحميل. وعرضت كذلك بوابة القصر الشمالية، وهي مصنوعة من خشب المريني الصلب ويتميز بأنه طارد للنمل الأبيض، وقد زودت البوابة من الخارج بأشواك مدببة بارزة وسيلةً لصد المعتدين الذين كانوا يخططون للاستعانة بالفيلة لمداهمة القصر.

والمنطقة الثانية في المعرض مخصصة للتاريخ الشفاهي، وهي بحسب ما أوضحت شرينة سعيد القبيسي، باحث رئيس في المركز الوطني للوثائق والبحوث، تعرض فيها شهادات وروايات قامت بتجميعها وتسجيلها مع مواطنين من الدولة حول التراث الشفاهي ضمن المشروع الذي اطلقه المركز منذ ‬2008، ويستهدف جمع التراث الشفاهي على مستوى الدولة، وهو ينقسم إلى التاريخ الشفاهي وموسوعة شخصيات من الإمارات.

في حين وضعت في المنطقة الثالثة من المعرض آلة سدو ضخمة موصولة بجهاز كمبيوتر، حيث تتم دعوة الزوار إلى نسج رواياتهم الخاصة في الذاكرة المشتركة لقصر الحصن، وفي المنطقة نفسها يوجد ركن «رواة العصر»، وفيه تعرض ثلاثة أفلام حديثة لها علاقة بالتراث، هي «غافة عوشة» لهناء الزرعوني، و«الأعمدة» لمصطفى زكريا، و«أسطورة» لفيصل الشرياني.

تويتر