القصص الشعبية مهددة بالتلاشي في زمن الفضائيات والإنترنت

الخراريف.. هل صمتت الجدة عــــن الحكايا

صورة

بقصصها الشعبية الشائقة، وصوتها الذي يبعث الدفء لدى الصغار، عندما يتحلقون حول موقد الحطب، كانت الجدة قمراً يضيء ظلمة الليالي، وعندما يقول أحدهم: «جدتي قولي لنا خروفة»، تبدأ بـ«كان يامكان في قديم الزمان»، لتذهب بخيال الطفل الذي يحلق مع آفاق الحكاية بلا حدود، وتنتقل من حدث إلى آخر، وتعيد مرات ومرات، إلى ان يستغرق الصغار في النوم، فيخفت صوتها شيئاً فشيئاً، حتى لا يسمع.. فقد سكتت عن الكلام، ولم يخلفها أحد ليكمل عنها الحكاية، وتحولت هذه الأيام إلى ذكريات جميلة عند بعضهم، يتحدثون عنها أحياناً في جلساتهم الخاصة، ويتذكرون أسماء الحكايات بأحداثها وأبطالها، ويقولون إنها خرافات جدة.

مشروع توثيقي

حول مشروع جمع وتوثيق الرواية الشفهية الذي تقوم به إدارة التراث المعنوي بهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، يقول الدكتور موسى سالم الهواري، «قامت الإدارة بجهود كبيرة في مجال الجمع الميداني لإمارة أبوظبي خصوصاً المشروع المستمر (مشروع الجمع الميداني الشامل للتراث المعنوي في إمارة أبوظبي)، الذي يتضمن برامج وباحثين وجامعين ميدانيين لمختلف عناصر التراث المعنوي في مناطق أبوظبي والعين والمنطقة الغربية» .

ويضيف «من أبرز الموضوعات التي تم جمعها موضوع السرد الشفاهي أو الحكايات الشعبية أو الخراريف من المناطق الثلاث، وأبرز ما أنجز يتمثل في كتاب الباحثة عائشة الظاهري (حكايات شعبية من العين)، كما ان الباحثة عزيزة الحمادي جمعت الحكايات الشعبية من المرفأ، وقدمت نحو 120 حكاية شعبية من الظفرة، والتي تشمل مناطق بدع زايد وليوا وغياثي وبدع المطاوعة والسلع، وجاري إصدارها في كتاب تحت عنوان (حكايات شعبية من الظفرة)، وجل الموضوعات التي تم جمعها عن الحكاية الشعبية تمت أرشفتها في أرشيف إدارة التراث المعنوي، بعضها تم إصداره على شكل قصص للأطفال مثل قصة (انصيف انصيفوه)».

ويتابع الهواري «من أبرز رواة الحكايات الشعبية في المنطقة الغربية، والذين اعتمد عليهم الباحثون في إدارة التراث المعنوي الراويات بخيتة المنصوري وسلطانة بنت ناصر المنصوري وسلامة بنت محمد الهاملي وعوشة بنت عبدالله المزروعي. وحرصت إدارة التراث المعنوي على تدوير الخبرات بين الباحثين والكتاب في ما يتعلق بالحكاية الشعبية، وأفردنا لها محوراً خاصاً في أحد المؤتمرات (الملتقى الدولي الثالث للتراث، الذي عقد في أبوظبي عام 2009)، وجاء تحت شعار الترويج للتراث ونقله لأجيال المستقبل (الحكاية الشعبية نموذجاً)».

 وحاليا، وقد بدأت المؤثرات الثقافية الحديثة، من فضائيات وقصص مصورة وإنترنت، وسيطرت النزعة المادية، التي بدأت بدورها تقضي على أوقات الفراغ، حيث كان المجال الحيوي لهذا النوع من الأدب الشعبي، كل هذه العوامل بأكملها تهدد حالياً فن الرواية الشعبية، وتعزلها عن أجيال جديدة لم تعد تسمع بها.. وحفاظا على هذا النوع من التراث الأدبي، وبقية أنواع التراث الأخرى من الضياع أو النسيان أمام ظاهرة النزعة المادية على الفكر والسلوك الإنساني، يمكن أن نقوم على الأقل بجمع كل ما ظهر من هذا التراث في مراحل تاريخية سابقة، وحفظه ضمن المراكز الثقافية والدوائر المختصة، كي لا يموت على الأقل، وانتظار الفرصة المناسبة لإعادة بث الحياة فيه.

ويقول الدكتور موسى سالم الهواري، (خبير تراثي في إدارة التراث المعنوي بهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة): «هذه الحكايات والقصص تعتبر شيئاً من الموروث الشعبي القديم، والتي كانت تستخدم عادة لشغل أوقات الفراغ لدى شريحة الأطفال، إما لترغيبهم في النوم باكراً إذا ما تم سرد قصة على مسامعهم، أو ربما لتنمية مهارات الخطابة والاستماع لديهم، وأحياناً لتجنب إزعاجهم داخل المنزل» .

ويضيف «أسهمت هذه القصص والروايات في ضبط السلوك الاجتماعي، وخلقت جواً ثقافياً كان بعضهم يستقي منه فعل الفضيلة، ويبتعد عن فعل الرذيلة من خلال اطلاعه على هذه القصص ذات المضمون التربوي اجتماعياً وإنسانياً، وقد امتلأت بالإثارة والتشويق، وسجلت أحداثاً مثيرة وبطولات غير واقعية، لكن بغرض شريف، وليس من أجل الاستعراض وإشاعة الأفكار الخيالية».

ويتابع: «ما يجمع بينها أنها جميعاً تفتقر الحبكة بين الأحداث والحل الذي يأتي غالبا وفق مزاج الراوي، لكنها قصيرة، هدفها إيصال فكرة أو رأي ومعلومة بطريقة بسيطة وسريعة من خلال عناصر وأحداث الحكاية الشعبية، علماً بأن الأحداث وإن لم تكن مترابطة الفكرة، إلا ان الغرض منها كان غالباً تربوياً وأخلاقياً، ما جعل هذه الروايات ذات قيمة فكرية واجتماعية وإنسانية، لأنها تناولت ما كان يرغب فيه الناس، أو ما يمكن أن يوفر لهم وسطاً اجتماعياً متفاهماً نسبياً».

ويضيف الهواري «لعل الروايات الشعبية التي درجت على لسان العامة وسيلة من وسائل التعليم والتثقيف حين غابت المدرسة، وندر المتعلمون، خصوصا قبل قيام الاتحاد، فقد وجد المجتمع فيها وسيلة سهلة ومفهومة يستطيع من خلالها أن ينقل ما يريد من الفكر إلى كل أفراد المجتمع، لاسيما الأطفال، بلغة بسيطة وطريقة تنسجم مع فكر وذوق الجميع، فالخراريف ثقافة موروثة بسيطة كانت تتناقلها الألسن شفاهاً، وعلى لسان عدد قليل من الناس دون معرفة بكاتبها تخضع للإضافات والحذف حسب مزاج الراوي أو الراوية، وتفتقر إلى الدقة والموضوعية، ويضيع فيها المكان والزمان الذي جرت فيهما أحداثها».

ويستطرد «لكن من الملاحظ اليوم أن الفضائيات والإنترنت، وخلافه من الألعاب التي دخلت إلى حياة الطفل، وأصبح أمام الخروفة الرقمية التي أفقدت تلك القصص بريقها وحيويتها، وأصبحت تسمع فقط أحيانا في أوقات ما قبل النوم، وأحيانا كنوع من محاولة الآباء للحفاظ على موروثاتهم الأدبية القديمة، وبالتأكيد فإن درجة انقراض هذا الموروث تختلف من بيئة لأخرى فالتركيبة الاجتماعية في المدينة تختلف عنها في البادية التي تبقى فيها هذه الموروثات أكثر رواجاً».

جلسة جماعية

في ما يتعلق بتعريف وعناصر الخروفة تقول الباحثة في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، عائشة الظاهري، «الخروفة الشعبية قصة قصيرة مسلية تهدف إلى إيجاد نوع من الخيال الواسع لدى الأطفال يتمعنون من خلالها بمفردات تلك القصة، لتولد معهم نوعاً من حب الاطلاع على خفايا كثيرة في الحياة تؤهلهم ليكونوا معتمدين على أنفسهم في المستقبل، لاتخاذ قراراتهم المتعلقة بهم، فالحكاية الشعبية بشكل عام تأخذ في طابعها إطار الجلسة الجماعية ما بيــن راوي الحكاية، والذي عـادة ما يكون كبيرا في السن مثــل الجد أو الجدة أو الأب أو الأم، والذين أخذوا من آبائهم وأجدادهم السابقين تلك الحكايات، وبين متلقي الرواية وهم في العادة الأطفال الذين يأخذون بالتمعن في كل مفردة من مفردات تلك الحكاية، من أجل أن يدركوا معانيها، وما تتضمنه من إرشادات وعبر وأهداف ونصائح تربوية يستفيدون منها في حياتهم».

وتوضح عائشة «في الأغلب كانت هذه الخراريف الشعبية تنطلق من قيم دينية إسلامية، يتجلى فيها الخلق والطابع الإسلامي في السلوك القويم، وفي حب الخير ومساعدة الآخرين، وكانت تهدف أيضا إلى غرس بعض العادات العربية الأصيلة والتراث العربي الذي تتفاخر به القبائل العربية مثل إكرام الضيف ونجدة الملهوف والمحتاج والتكافل والتضامن والتعاون بين أفراد المجتمع الواحد. وتأخذ الحكاية الشعبية إطار الجلسة الجماعيـة ما بيـن الراوي، الذي عـادة ما يكون كبيراً في السن، والمتلقي وهم الأطفال، ولكن في الوقت الحاضر بدأت الحكاية الشعبية في التلاشي لوجود الأجهزة الحديثة التي تتنوع فيها القصص المصورة».

وعن أشهر الروايات في المجتمع الإماراتي تقول: «يتداول الناس في مجتمعنا الإماراتي عددا من الروايات المشهورة التي تروى أحياناً بأشكال مختلفة، مثل حكاية بنت السماك وأبوزيد الهلالي، وعليا الهلالية، وحكايات سحرية، بالإضافة إلى خراريف كثيرة تجسد الكرم والشجاعة، وحكايات على ألسنة الحيوانات والطيور». وتضيف، «الروايات الشعبية تشغل حيزاً لا بأس به في الأدب الإماراتي، وتعكس الخيال الشعبي في الإمارات، والمنطلق من التمسك بالدين والقيم والأخلاق والمثل السامية، وهذه الخراريف، وان لم تكن واقعية، إلا أنها تضرب على وتر حساس، يتمثل في حب التنشئة الاجتماعية على أسس دينية وتراثية.

وهناك رغبة شديدة لإحياء هذه الخراريف الشعبية التي نرى أعماقها انعكاسا لمجتمعنا الإماراتي المتميز بحب الخير والانفتاح ومساعدة الجميع، كما ان مثل هذه الحكايات موجود في معظم او كل الآداب العالمية، التي يعكف كثير من الكتاب والأدباء المعاصرين على بلورتها وترجمتها إلى لغات عدة ونشرها كنموذج أدبي له طابع شائق» .

«وشو صار؟»

عن الخروفة في الماضي تقول المواطنة عائشة ابراهيم سلطان (75 عاماً): «في مشهد يتكرر كل ليله يتحلق حولي عدد من الأطفال والصبية لسماع الخروفة، وأبدأ الخروفة بعبارة (كان يا ما كان في قديم الزمان.. كان هناك ...)، لأبدأ بعدها تفاصيل الخروفة، وما أن أبدأ برواية القصة إلا أجد جميع الأطفال جالسين يستمعون، ويتتبعون أحداثها وتفاصيلها، أما إذا ما توقفت عن الحديث، تداركني الأطفال بقولهـم (وشو صار بعد ذلك؟)، لأرد عليهم بقولي لهم: (يا عيال دعوني أرتب أفكاري) لأواصل الخروفة شارحة للأطفال تفاصيلها، وما أن أرى الأطفال قد انسجموا معي أتوقف.. قائلة (بنوقف ونكمل باجر، وتذكروا يا أطفال وين واقفين)، وأتبعها بعبارة تتلاءم وأوقات رواية الخروفة كقولي (سيروا ناموا أو تصبحون على خير)، إذا كان موعد روايتها يتلاءم مع وقت النوم».

وتضيف «عادة لا تتجاوز رواية الخروفة الشعبية 10 دقائق في اليوم الواحد، بهدف إيجاد نوع من التفكير لدى الأطفال ليحاولوا وضع تكملة لتلك القصة بأنفسهم، كل بمفرده، وليعرفوا نهاية تلك الخروفة، ويأتي اليوم التالي لرواية القصة، ويحين موعد استكمال الحكاية، وربما لا تحضرني الرواية إلا أن الأطفال يذكروني ويخبروني عن موضع توقفي للحكاية في اليوم السابق، لأبدأ من جديد مواصلة ما تبقى من تفاصيل الحكاية، إلى أن أنتهي منها، وهكذا كل يوم».

وتتابع عائشة ابراهيم «عادة عندما تنتهي الحكاية الشعبية، يبدأ الأطفال بمناقشة الراوي في بعض المصطلحات والأحداث التي دارت طيلة رواية القصة والأهداف من وراء روايتها، كما تتخلل الحكاية بعض المداخلات الخفيفة من الراوي ليست ذات صلة بموضوع القصة لترسم الابتسامة على وجوه الحاضرين، ولكيلا يشرد انتباههم عن أحداث الحكاية، وتتداخل معهم المعلومة، كما أن بعض الخراريف الشعبية مغناة، وتروى عن طريق الأبيات الشعرية البسيطة التي تحكي قصة معينة».

وتبدي أسفها على حال الخروفة في الوقت الحاضر، إذ قل الاهتمام بها، وبدأت في التلاشي، لوجود الأجهزة الحديثة كالتلفاز والمذياع والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي تتنوع فيها القصص المصورة التي يستمتع الأطفال بمشاهدتها، أو الاستماع إليها طيلة اليوم، بالإضافة إلى ذلك فهناك الكثير من الأحفاد يقيمون بمعزل عن أجدادهم، بينما ينشغل الآباء والأمهات بأعمالهم اليومية، ويتركون أبناءهم مع المربيات، بحيث لا يعملن على غرس قيم وعادات وتقاليد المجتمع العربي المسلم في نفوس هؤلاء الأطفال، لكن مع كل ذلك تبقى للخروفة الشعبية مكانتها ورونقها في المجتمع الإماراتي بشكل عام، والأدب الشعبي المحلي بشكل خاص، ويبقى هنالك بصيص أمل، لأن تجد هذه القصص موقعها على الخريطة الثقافية الإماراتية، من خلال تنظيم الأسابيع الثقافية والاجتماعية والمهرجانات الشعبية المقامة على أرض الدولة، من قبل العديد من الهيئات والمؤسسات الحكومية والخاصة والمشاركة في المهرجانات الدولية التي تظهر تراث وتاريخ وعادات وتقاليد وآداب المجتمع الإماراتي، واهتمام بعض كتّاب القصة بالكتابة في الخراريف الشعبية، حسب عائشة إبراهيم.

تويتر