شباب المسرح يعود إلى «التراب الأحمر»

النـص لا يمـوت على الخشبة

صورة

«اليوم بدأ المهرجان».. قالها أكثر من متابع حاول التعبير عن إعجابه بعرض «التراب الأحمر»، الذي استضافته خشبة مسرح دبي الاجتماعي في «مول الإمارات»، أول من أمس، في ثاني ليالي مهرجان دبي لمسرح الشباب في نسخته السادسة، من دون أن يعني ذلك التقليل من الجهد المبذول في مسرحية «ضحكة سلم»، بقدر ما يؤشر إلى أن هنا مزيداً من الاقتراب من ألق حضور عناصر العمل المسرحي، ونجاحه في نسج تواصله مع الحضور.

مسرح دبي الشعبي راهن على نص سبق تقديمه ومشاركته في مهرجان آخر هو «أيام الشارقة المسرحية» عام ،2004 وفق ظاهرة ابتعاث النص الذي أضحى في ظل ندرة النصوص الجيدة «لا يموت على خشبات المسارح الإماراتية»، وقابل دائماً للابتعاث، ما يعني أن استكشاف المحتوى الدرامي للعمل ليس هو الجاذب الأكبر لمن سبق أن شاهد العرض حينها، بقدر ما يحرضه الرؤية الإخراجية الجديدة لنص مرعي الحليان، الذي جعلته المفارقة عضو لجنة تحكيم المهرجان، ما استدعى اعتذاره عن إبداء رأيه التحكيمي في هذا العمل تحديداً ويذهب صوته لرئيس لجنة التحكيم، الدكتور يوسف عيدابي.

«يعطيكم العافية»

على الرغم من تنبيه مدير الندوة التطبيقية الفنان إبراهيم سالم، بخفة ظل، إلى أهمية أن يعقب المخرج الشاب على آراء المتادخلين فيها، بعيداً عن الاقتصار على العبارة المتكررة للمخرجين الشباب: «يعطيكم العافية وما قصرتكم، وشكراً على الحضور»، إلا أن طلال محمود ابتدأ تصريحاته بالصيغة ذاتها فوراً، لكنه لم يقف عندها وتطرق للحديث إلى أكثر من مفصل، ولكن دون أن يجيب بشكل مباشر عن عدد من التساؤلات المطروحة.

وقال طلال لـ«الإمارات اليوم» إنه «واجه تحدياً كبيراً بالاشتغال على نص سبق تقديمه، لذلك اشتغل كثيراً على محاولة اختزاله، مبرراً تكرار تعاونه الدائم مع حسن يوسف ومروان عبدالله وبدور بقناعته بجدوى العمل ضمن مجموعات مسرحية محددة».

اختيار «التراب الأحمر» تحديداً لم يخلُ من جوانب نفسية ذاتية لدى طلال الذي أضاف: «هذا النص يحيلني لبداية ارتباطي بالمسرح، وحينما اقترب منه استدعي تلك البدايات التي تلمست عبرها كياني بالمجمل»، كاشفاً أن «الممثلين على الرغم من أن خبرتهما في المسرح تتجاوز خبرة المخـرج، فإنهما وضعاه أمام مسؤولياته بكثير من السئلة المحرجة التي استدعت منه بحثاً وقراءة».


سميرة الوهيبي: لا مقارنة

رفضت الممثلة العُمانية سميرة الوهيبي، مبدأ المقارنة بين عرضي «التراب الأحمر» وفق الرؤيتين الإخراجيتين، كما رفضت أيضاً مقارنة أدائها في عام ،2004 بأداء بدور، لكنها استدركت: «ربما هذا ينطبق على العاملين بفنون المسرح ونقاده، لكن من المؤكد أن الجمهور الذي شاهد العملين سيقارن في مخيلته، وهنا تبقى المقارنة مشروعة».

وعبّرت الوهيبي عن إعجابها بأداء بدور خصوصاً مضيفة: «تمكنت الممثلة الإماراتية من التغلب على كثير من المعضلات التمثيلية بقدرة وكفاءة، الأمر الذي تكرر أيضاً مع حسن يوسف، في حين نجح طلال في تقديم رؤية إخراجية جديدة، وجعل الشخصيتين الرئيسيتين تتحركان وتحلقان بعيداً عن أزمة وإشكالات المقارنة المفترضة».


إسماعيل عبدالله: اكتبوا للمسرح

طالب رئيس جمعية المسرحيين، الفنان إسماعيل عبدالله، المخرجين الشباب بالبحث عن نصوص جديدة، وعدم استسهال اللجوء لنصوص موجودة، لكنه وجه دعوته أيضاً إلى هذا القطاع بالكتابة للمسرح، مضيفاً: «اكتبوا للمسرح وعبروا عن رؤاكم بأنفسكم، وأنتم قادرون بالفعل على حل أزمة الكتابة، وأقدر على التعبير عن قضاياكم الملحة».

وأوضح عبدالله لـ«الإمارات اليوم»: «أرفض تماماً ظاهرة إعادة إنتاج مسرحيات قدمت بالفعل برؤى إخراجية جديدة، إلا إذا كان العمل يشكل ظاهرة استثنائية، ويحتمل بالفعل تقديمه بصيغة مختلفة، أما أن يتحول هذا الأمر إلى ظاهرة، فهذا تكريس لأزمة ندرة النصوص المسرحية الجيدة».


يوسف بن غريب: «أين النص الجيد»

دافع يوسف بن غريب عن لجوء مسرح دبي الشعبي إلى نص سبق تقديمه عبر مسرحية «التراب الأحمر»، طالباً الاشتغال بدلاً عن ذلك بالتفاعل مع جماليات العمل ومفرداته، وقراءة الرؤية الإخراجية لشاب عرفـه المسرح الإماراتي كاتباً وممثلاً بالأساس وليس مخرجاً.

وأضاف بن غريب: «لم يتأثر المخرج بالمعطيات السابقة لعرض العمل، وكان حينها في مرحلة مبكرة من ارتباطه بالمسرح، كما أن كاتب النص لم يشاهد أياً من بروفاته وابتعد تماماً عن التأثير في العرض الجديد، وتمكن طلال بأدوات المخرج التي لايزال يتلمسها من تقديم عمل نعتقد أن (دبي الأهلي) يعود عبره إلى ذاكرة اقتناء جوائز المهرجان التي سبق له الفوز بست منها في دورة واحدة».

واعتبر بن غريب أن المراهنة على ظاهرة المجاميع المسرحية هي الأكثر مناسبة لظروف المسرح الإماراتي، مضيفاً: «يعمل الشباب سوياً بشكل أكثر إبداعاً حينما يصبحون أكثر انسجامًأ، وهـذا ما تحقق مع مجموعـة أحـدث مسـرح دبي الأهلي بينها هذا الانسجام، منهم الرباعي المشارك في «التراب الأحمر». مروان عبدالله: «دائماً ينتقدوننا الابن وأبيه أضحت صورة مرافقة دائماً للفنان القدير عبدالله صالح وابنه الفنان الشاب مروان»، وفي حين جلسا بالقرب من بعضهما بعضاً في الندوة التطبيقية، بادر الأب بالدفاع مسبقاً عن ابنه الذي تولى مهمة السينوغرافيا في «التراب الأحمر» مبادراً: «عرفنا مروان ممثلاً ومخرجاً.. ونحن هنا نكسبه في مجال جديد علينا أن نهنئه به».

هذه الصيغة لم تمنع أحد المتداخلين من انتقاد السينوغرافيا، دفعت مروان للتصريح لـ«الإمارات اليوم»: «كنت اضع التصور للديكور وغيره من عناصر السينوغرافيا ويحركني هاجس تجنب الانتقاد، إذا اخترت (اللون الأحمر) سيقولون لجأ إلى المباشرة في مسرحية تحمل عنوان (التراب الأحمر)، وإذا لجأت إلى البنفسجي هناك دائماً هجوم آخر معلب جاهز، لكنني في النهاية لا استطيع الخروج تماماً عن روح البيئة الصحراوية وفق نص العمل».

تعقيد المشهد خارج السياق الدرامي للعمل لم يقف عند هـذا الحـد، فهنا الممثلان الوحيدان في العمل برؤيته الأولى حاضران ايضاً أمام الخشبة وفي مقاعد الجمهور، وهما الممثلة العُمانية سميرة الوهيبي، والفنان الإماراتي إبراهيم سالم، الذي كان له دور رئيس في قبول العمل ضمن المهرجان، نظراً لرئاسته لجنة المشاهدة المسؤولة أصلاً عن قبول الأعمال.

لم يبقَ إذن من اللاعبين الرئيسين في «التراب الأحمر» لعام 2004 سوى المخرج حسن رجب، الذي كان حاضراً أيضاً بصحبة ممثليه في مقاعد الجمهور، كما أنه كان حاضراً أيضاً في لجنة المشاهدة ضمن أعضائها الأربعة، وإذا أضفنا ملحوظة قدمها رئيس مسرح دبي الأهلي، يوسف بن غريب، وهي أن مرعي الحليان لم يشاهد بروفات «التراب الأحمر» ،2012 وأن هناك تعديلات طرأت على الرؤية الإخراجية وغيرها بعد إقرار مشاركة المسرحية، فإنه يمكن القول إن أسرة العمل في نسخته الأولى، كانت مترقبة لمشاهدة نموذج مختلف لما قدمته منذ ثماني سنوات، برؤية إخراجية أكثر حداثة.

تحديات

كل هذه الملابسات وضعت العرض بشكل مسبق أمام تحديات أكبر، خصوصاً على صعيد السينوغرافيا التي أُسندت للفنان الشاب مروان عبدالله صالح، الذي سعى إلى كسر صورة العمل القديم، فقرر الاشتغال على مساحة مفتوحة، ليبتعد عن تقليدية حضور البيت القديم، لتظهر في الجزيرة أشجار نخيل غير خاف عطشها، وأخرى زبلت وقُطعت سيقانها، فيما الأفق يحجبه شباك بدت محيطة الجزيرة، موضع الحدث الدرامي بما يشبه خيوط العنكبوت الشبكية، وفي أقصى يسار المشاهد يتضح أن ثمة من يعمل بمهنـة الحدادة هنا، من خـلال منصـة لطرق الحديد.

بلغة أقرب إلى النص الشعري تدور أحداث «التراب الأحمر»، الذي يثير مسماه في حد ذاته تساؤلات تتعلق بمغزى وصفه بـ«الأحمـر»، وما إذا كانت الدلالة هـي إشارة لقدسيتـه وحرمـة التعدي عليـه، أم غير ذلك، وفي حين يكتسي التفسير الأولي مشروعية ربطه بقضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة، فإن حالة التعمق النفسي الذي اشتغل عليها المخرج طلال محمود، امتدت لتنفتح على أزمة إنسانية بالمجمل تتعلق بحرمة الأوطان، وتلك العلاقة العضوية التي تنشأ بين الإنسان وترابـه، لاسيما حينما يغدو هذا التراب سليباً أو مغتصباً.

متغيرات

ممثلان فقط اعتمد عليهما طلال محمود، الذي حاول استكشاف طاقة الممثلين حسن يوسف وبدور، وأطلق لقدرتيهما التمثيلية الخاصة العنان، كي يساعداه في التأكيد أن ثمة متغير في الرؤية والمحتوى الدراميين، لكنه نسي في غضون ذلك بأن ثمة متغيرات أخرى طرأت على الواقع، وأن الحليان نفسه لو أعاد كتابة «التراب الأحمر»، كان حتماً سيقدمه بصيغة متباينة.

بعد ثماني سنوات، على سبيل المثال، كان من المفترض أن يقصي المخرج الاعتماد على صيغة رجل يبكي ولده الفقيد مخاطباً الأفق المشوش أمامه، على هذا النحو المتكرر حتى في أعمال المهرجان ذاته، وألا يطيل على أقل تقدير في حضوره، وهي الصيغة التي اختار أن يبدأ بها، لينقل للمشاهد معاناة رجل وزوجته بعد أن دفنا وليدهما، ليظل الهاجس الدائم له رفضه منحه لقب «ميت»، في حين تتحول الزوجة الشابة الفاتنة، إلى امرأة فقدت إحساسها بالحياة، فغدت لا تملك إلا الذكريات، وهواجس تهرب منها بأوهام تبنيها على وهم سعادتها في حال فارقت هي الأخرى زوجها.

الإضاءة كانت وسيلة أخرى لاستكشاف العوالم النفسية المتبدلة للشخصيات، وإن لم يتح النص تبدلها كثيراً، وعلى هذا المنوال أيضاً سعى المخرج إلى توظيف الموسيقى والمؤثرات الصوتية، التي كان من الممكن أن تلعب دوراً أكبر من ذلك، لاسيما في ظل الاتجاه إلى العالم النفسي لزوج وزوجة فقدا الإحساس بالحياة، والأمل في الغد بعد افتقادهما ابنهما، في معادل موضوعي لافتقاد حبة رمل أو ذرة تراب من تراب الأوطان، لتبقى المراهنة على أن حالة الفقد التي نجح المخرج في إدخال المتلقي في معاناتها، لن تزول إلا بعودة هذا التراب إلى جسد الوطن. في ظل هذا المعادل الموضوعي الذي عالجه طلال لنص الحليان تكتسي قوة التوصيف دلالة تسعى إلى رصد الحالة النفسية لزوجين رفضاً النزوح من الجزيـرة، وقررا التمسك بالأرض، وعلى الرغم من تحريض الزوجة لزوجها على الرحيل وتذكيره الدائم بأنها تعاني وأن الذين رحلوا أضحوا يعيشون في عيش رغيد، بل إنه هو أيضاً لا ينفك يذكرها بأنها أضحت مثل «النخلة التي خاست عروقها»، و«الجيفة»، فإن كليهما يقرر قراراً مصيرياً يختار عبره البقاء، والتمسك بتراب الجزيرة، على الرغم من موت ابنهما الذي اختار له المؤلف اسماً موحياً هو «غايب».

تويتر