تبني «العائلة المقدّسة» في 144 عاماً.. و«البارسا» مزار سياحي

برشلونة.. أكثر من مجرّد مدينـــة

صورة

بأحرفٍ كبيرة شكلتها مقاعد صفراء على خلفية زرقاء في قلب استاد نادي برشلونة، كتب النادي الأشهر في العالم شعاره «أكثر من مجرّد نادٍ»، لكن الزائر لتلك المدينة الساحلية الساحرة يكتشف أن الشعار نفسه يمتد ليشمل المدينة بأسرها، ليجد نفسه يغادرها وهو يردد بعفوية «برشلونة.. أكثر من مجرد مدينة».

الاستاد الرمز

إن كنت من عشاق كرة القدم، ونادي البرسا تحديداً، سيكون لزيارتك مقر نادي برشلونة طعم خاص جداً، وإن لم تكن كذلك فستعرف لماذا تحول «البارسا» إلى رمز لملايين البشر حول العالم، وسيتضح لك عمق المقولة التي اختارها النادي شعاراً له وحولها إلى واقع «أكثر من مجرد نادٍ».

وفي كلتا الحالتين، لاشك أنك ستصاب بالصدمة من محتويات النادي التي حولته إلى مزار سياحي من الطراز الأول. صحيح أن شعوراً بالهيبة سينتابك وأنت تجلس على مقاعد استاد «البارسا»، لكن شعوراً بالزهو والمفاجأة سيلازمك طوال رحلتك داخل أروقة النادي، بداية من القاعة الكبرى التي تضم الكؤوس التي حصل عليها فريق كرة القدم عبر تاريخه الممتد منذ عام ،1899 ثم قاعة أخرى باضاءة خاصة تعرض مشاهد من أهم مباريات «البارسا»، وبجوارها تقف أمام طاولة ضخمة تم وضع لقطات مصغرة عليها لأهم الأهداف التي سجلها نجوم الفريق الكتالوني في مبارياته، وتستطيع عبر لمس الشاشة فوق لقطة ما أن تشاهد الهدف بالفيديو، مع قراءة خبر تفصيلي عنه بعد ان تكبر الشاشة، لتعود صغيرة مرة أخرى إن لمست غيرها. ثم تأخذك الجولة إلى غرفة تبديل ملابس اللاعبين، والحجرة التي يصلون فيها قبل نزولهم أرض الملعب، وأخيراً المتجر الضخم قبالة النادي لبيع مختلف الألبسة والأدوات الرياضية، والتي لا يقتصر بيعها في هذا المكان، بل إن مدينة برشلونة كلها، وفي جميع متاجرها وأحيائها، تبيع ما يرمز إلى نادي «البارسا» ولاعبيه.


«فلامنكو»

التلاقي النفسي الذي تضبط نفسك به مع مدينة برشلونة، يعززه حضورك لعرض رقصة الفلامنكو، فألحان وغناء هذه الرقصة تقترب كثيرا من وجدانك الشرقي، على الرغم من أن الرقصة في حد ذاتها بعيدة تماما عن التمايل الجسدي، إذ تعتمد راقصة الفلامنكو على حركة الرجلين واليدين، بعيدا عن الهدوء والرومانسية، اللذين لن تجدهما في رقصة تتسم بالعنفوان والكبرياء، مع سرعة في الأداء الحركي، يكون فيها المايسترو حركة القدمين المتلاحقة

العنف الذي يغلف الأداء الراقص في الفلامنكو، لن يفسره لك سوى ما تعرفه عن لغة الجسد، لتستقبل الرسالة كاملة وأنت تنظر إلى ملامح الراقص ورأسه المرفوع دوما، بتقاسيم وجه يشع منها التحدي والكبرياء الممزوج بالشموخ والاعتزاز. لن تستقيم زيارتك إلى برشلونة، وربما أي مدينة إسبانية، من دون حضور عرض لرقصة الفلامنكو، فكما تتعرف خارج قاعة العرض إلى حاضر المدينة وجغرافيتها، فأنت في داخلها تقرأ ماضياً على أنغام حركات الأقدام.

يعود تاريخ كلمة الفلامنكو إلى منتصف القرن الـ،19 لكن ليس هناك يقين عن أصل تسميتها، وإن كان هناك احتمال أن يكون معنى اسمها هو الفلاح المنكوب، إذ ترجع التسمية إلى «فلاح منكو»، أي «فلاح من غير أرض»، وهم الفلاحون المويسكيون، الذين أصبحوا بلا أرض، فاندمجوا مع الغجر وأسسوا ما يسمى الفلامنكو، كمظهر من مظاهر التعبير عن الألم الذي يشعر به الناس بعد إبادة ثقافتهم.

برشلونة.. مدينة تشبهنا إلى حد بعيد، تشعر بأنها منا، وأننا - بشكلٍ ما - من هناك، فعندما تسير على شاطئ بحرها تتنفس هواء الإسكندرية، وإن صعدت إلى جبالها تشاهد طبيعة اللاذقية، وإن أكلت زيتونها تحس طعم فلسطين، وإن مررت بشوارعها فأنت تسير في جزء ما من دبي، وفي كل تلك الأماكن وغيرها تدهشك طبيعة أهل برشلونة بابتساماتهم غير المصنوعة، وصوتهم الخفيض، ورغبتهم الصادقة في تقديم المساعدة قبل أن تطلبها، وذلك على الرغم من تأثيرات الأزمة الاقتصادية التي جعلتهم يعيشون أياماً صعبة، دفعت كثيرين منهم إلى الترحّم على أيام العملة الإسبانية السابقة «البيزيتا»، أما الجيل الشاب الذي لا يعرف سوى «اليورو»، فإن كثيرين منه يتمنون لو لم تكن إسبانيا ضمن دول الاتحاد الاوروبي، فتأثير الأزمة لاتخطئه عينك في كل شارع أو مطعم أو محل لبيع أي شيء، وتجده أكثر وضوحاً وحدّة في نبرات صوت شاب يخشى كل يوم أن يطلب منه عدم المجيء في اليوم التالي إلى عمله، أو فتاة تغالب دموعها وهي تحكي قصة حب لم تكتمل بسبب صعوبة العثور على عش للزوجية في ظل متوسط إيجارات يراوح بين 600 و800 يورو، بينما معدل الرواتب بين 1200 و1400 يورو.

اعتداد بالنفس لا يقع في باب الغرور تلمسه لدى أهل برشلونة، فهم فخورون بانتمائهم إلى مقاطعة كاتالونيا، ليس جغرافياً فحسب، وإنما هوية أيضاً، فهم يفرضون التعامل بلغتهم الكاتالونية حتى مع أبناء جنسيتهم الإسبان، مصرّين على أن تحمل اللوحات الإرشادية على الطرق، وغيرها، اللغتين الإسبانية والكتالونية، والمثير للدهشة أن أغلب هذه اللوحات يكاد يخلو من اللغة الإنجليزية، على الرغم من أن برشلونة ثاني مدينة في العالم في تنظيم المؤتمرات والاجتماعات العالمية، وواحدة من أهم المدن السياحية على البحر المتوسط، ويزور مقاطعة كاتالونيا نحو سبعة ملايين سائح سنوياً، وتسعى - في ظل الأزمة الحالية - إلى استقطاب المزيد، لكنهم ليسوا مستعدين لمساعدة هؤلاء السياح بإضافة الإنجليزية كونها لغة مشتركة، ولو على سبيل الاسترشاد بها في الطرق مثلاً، أو أجهزة الرد الآلي في الهواتف العمومية، أو غير ذلك من تفاصيل صغيرة يحتاج إليها الزائر الأجنبي، فمازال عند الإنسان الإسباني عموماً، والكتالوني خصوصاً، ذلك الاعتزاز الشديد بلغة يرى أن على الآخرين محاولة تعلّمها.

«عائلة» جاودي

ما أكثر الأماكن التي يجب أن تراها خلال زيارتك لبرشلونة، لكن مكانين اثنين تحديداً إن لم تذهب إليهما، فأنت لم تزر برشلونة؛ لأنهما باختصار لا يوجدان إلا هناك، الأول استاد نادي برشلونة، الأضخم في اوروبا، وربما العالم، والمكان الثاني كنيسة «العائلة المقدسة».

والمدهش في هذا المبنى أنه يتجاوز كونه مكاناً للعبادة، لتقف أمام تحفة هندسية معمارية، رغم أنه مازال تحت الإنشاء حتى الآن، على الرغم من أن عمليات البناء بدأت فيه عام ،1882 ومن المقرر أن تنتهي بعد 14 عاماً من الآن، أي في عام 2026 (الأرقام صحيحة، ولا يوجد بها خطأ مطبعي)، 144 عاماً سيستغرقها هذا البناء الضخم المبهر ليكتمل تماماً في 10 يونيو ،2026 وهو اليوم الذي تحتفل فيه برشلونة بالذكرى المئوية الأولى لوفاة واضع تصاميم هذه الكنيسة المهندس المعماري الفذ انطونيو جاودي، ولأن تصميم المبنى أكثر تعقيداً وفناً مما يتخيل أحد، فإن كلمة جاودي الشهيرة تتردد في داخلك وأنت تشاهد بانبهار كل هذا الفن في كل جزء، مهما صغر، من الكنيسة، حين قال: «لست في عجلة من أمري، فمن ستُبنى من أجله الكنيسة لا يستعجلني».

في كنيسة «العائلة المقدسة»، كما في كل أعماله، لم يستخدم جاودي أبداً الخط المستقيم في تصاميمه، فقد كان يردد دائماً «إن الله لم يخلق خطاً مستقيماً إلا في أشعة النور»، وتعود هذه الرؤية المعمارية الخاصة به إلى تأمله وهو صغير طبيعة خلية النحل، ما جعل جميع تصاميمه المعمارية خالية من أي خط مستقيم، كما لا توجد بها أجزاء متماثلة، فكل عنصر له شكل مختلف مهما كان صغيراً.

فكرة هذا العمل الديني الفني الرائع مستوحاة من قصص الميلاد والموت والقيامة للسيد المسيح، إذ يحكي جاودي هذه القصص الثلاث من واقع عقيدته، ومن خلال ثلاث واجهات، «واجهة المهد، واجهة الشغف، واجهة المجد»، وكل واجهة منها تحكي قصة عبر الكلمات والمنحوتات، وحتى عبر ملمس الأسطح وزوايا الاضاءة.

وتتكون الكنيسة من 18 برجاً ترمز إلى العائلة المقدسة، وهم مريم العذراء، والإنجيليون الأربعة، «لوقا، متي، مرقس، يوحنا»، إضافة إلى الرسل الـ،12 وأخيراً أطول أبراج الكنيسة يرمز إلى السيد المسيح عليه السلام، والذي تعمد جاودي تصميمه أقصر من جبل «مونت جويك» في برشلونة بمتر واحد، فهو من وجهة نظره «لا يريد مجاراة عظمة خلق الله».

«جويل بارك»

قد تكون كنيسة «العائلة المقدسة» العمل الأكثر فناً وإبداعاً وجمالاً، بل وعبقريةً للفنان الكتالوني أنطونيو جاودي، لكنه ليس الوحيد، فإبداعات هذا المهندس الفنان، والتي تتميز بروحها الشرقية، في أكثر من مكان في برشلونة، إذ لا يوجد فنان في العالم ترك أثراً في مدينة كما فعل جاودي في برشلونة، ومن بين هذه الإبداعات «جويل بارك» أو حديقة جويل، التي تحوي بيتاً صغيراً عاش فيه جاودي فترة من الزمن، وتقع الحديقة على تل منحدر جعلها جاودي أقرب إلى المكان الطبيعي، كأنها من دون تصميم مسبق، فالالتواءات والصخور والأشجار وكل ما يقابلك في صعودك ونزولك على منحدرات الحديقة يشعرك بأنها من صنع الطبيعة، ولم يتدخل أحد في تصميمها، باستثناء منطقة الجلوس الواسعة المزينة بالبلاط والفسيفساء بألوان تنبض بالحياة، بل إنها أيضاً جاءت بمقاعدها المنحنية منسجمة تماماً مع جدران الحديقة المتماوجة.

في أرجاء حديقة جويل، تستمتع بأنواع من العزف الموسيقي على آلات مختلفة؛ عزف هادئ من فنانين ربما دفعتهم الأزمة الاقتصادية إلى قضاء وقت أطول في العزف أمام زوار الحديقة، وقد وضع كل منهم إلى جانبه أو أمامه وعاءً يضع فيه رواد الحديقة القليل من النقود تعبيراً لطيفاً عن إعجابهم.

شارع «رامبلا»

شارع رامبلا هو شريان برشلونة السياحي، وأكثر أماكنها ازدحاماً ونبضا بالحياة، كل شيء تجده في هذا الشارع غير المسموح للسيارات بالسير فيه، المطاعم، متاجر الهدايا، الورود، وغيرها. ويربط شارع رامبلا بين أشهر ساحات برشلونة والمسماة «كاتالونيا»، وبين ساحة يرتفع فيها نصب الرحالة كريستوفر كولومبس، على امتداد يتجاوز كيلومتراً، وتزينه الأشجار على الضفتين والتي تتلاقى أغصانها في الأعلى مشكلة قوساً أخضر متصلاً أعلى السائرين، وفي منتصف الشارع تقريباً تجد أقدم أسواق الخضار والفواكه في برشلونة ويسمى «لا بوكوريا»، وما يلفت نظرك في هذا السوق المغطى ليس فقط توافر كل أنواع الخضار والفواكه والأسماك بشكل منظم وشديد النظافة، ولكن إمكانية أن تجلس في مقهى تتناول مشروباً ساخناً أو بارداً في أشهر صيف برشلونة الدافئة.

وبعد الاستمتاع بالتسكع في الساحة الكاتالونية وشارع برشلونة الأشهر، تتعرف في «الحي القوطي» إلى تاريخ برشلونة القديم، إذ توجد مبانٍ من القرن العاشر الميلادي بطرازها المعماري المميز، وأزقتها الضيقة التي تخرج منها إلى ساحات رحبة، وفي أحد هذه الأزقة تتوقف عند متحف بيكاسو الذي يضم أكثر من 3500 عمل فني لفنان إسبانيا الشهير بابلو بيكاسو، موزعة في حجرات وممرات بطريقة تساعدك على تأمل كل لوحة بمفردها، ودون أن تشعر، يمر وقت طويل وأنت تعيش مع حكاية كل لوحة لتفاجأ بعقارب الساعة وقد أشارت إلى موعد إغلاق المتحف، لتندم - فقط - على الوقت الطويل الذي أضعته وأنت تقف في طابور طويل لتأخذ بطاقة دخولك إلى عالم بيكاسو.

«مونت جويك»

فوق جبل «مونت جويك» تبدو برشلونة فخورة برقم ،1992 وهو التاريخ الذي استضافت فيه المدينة دورة الألعاب الأولمبية، التي تعد النقلة الحضارية الثانية في تاريخ برشلونة الحديث، حيث توجد «القرية الأولمبية»، والمدهش أن استبدال آخر رقمين في هذا التاريخ يحمل فخراً آخر لأهل برشلونة، ففي عام 1929 كانت النقلة الحضارية الأولى للمدينة، إذ أقيم «معرض برشلونة العالمي»، ومازال يقام بشكل مستمر، والمدخل الرئيس لمقر المعرض هو «ساحة إسبانيا» التي تتوسطها إحدى أجمل النوافير المائية في العالم والمسماة بـ«نافورة السحر»، وبجوار القرية الأولمبية تشاهد نموذجاً مصغراً للقرى الإسبانية، ومتحف «ميرو» للفن التجريدي، والمتحف الحربي، ومن فوق «مونت جويك» تحظى برؤية كاملة لمدينة برشلونة التي تكاد تختفي فيها الأبراج الشاهقة إلا قليلاً. ومن أهمها مبنى فندق »آرت برشلرنة« الذي صممه المهندس الكولمبي بروس جراهام بتصميم فني يمزج بين الزجاج والحديد في واجهاته الاربع المطلة على البحر المتوسط، بارتفاع 44 طابقا.

وعلى بعد نحو ساعة من قلب المدينة، تصعد جبلاً آخر، لكنه أكثر روعة وجمالاً ويسمى «مونت سيرات»، وفي طريقك إلى قمة هذا الجبل، تدرك حقيقة تسميته التي تعني «الجبل المتعرّج»، فنادراً ما تسير أمتاراً قليلة في خط مستقيم، لكنك في جميع الاتجاهات تصطدم عيناك باللون الأخضر الذي يكسو مرتفعات الجبل، سواء كنت مستخدماً السيارة أو القطار أو التليفريك الذي يضاعف من متعة أحتضان الجبل لك، وفي القمة يوجد دير يطلق عليه اسم «الكأس المقدسة»، وأثناء سيرك نحو تلك الكأس عليك التزام الصمت التام، وهو الطلب الوحيد - بل الأمر - المكتوب بنحو سبع لغات على باب الصعود، من بينها «العربية» التي لن تراها في مكان آخر.

تويتر