القتيل عند دير العاقول

غوطة دمشق.. حيث مرّ وكتب آلاف الشعراء. من المصدر

قيل إنّ جنان الدنيا أربع:

غوطةُ دمشق ونهرُ الأُبُلة وشِعبُ بَوّان وصُغدُ سمرقند... جنان مر بها ملايين الناس وعبرتها مئات الأجيال وشهدها ألوف الشعراء، لكن أبا الطيب هو الذي وضع شعب بوان في سجل الخلود.

  . . . . .

حلّ أبوالطيّب المتنبي ضيفًا على عضد الدولة بن بويه في أبريل من عام 965م/ ربيع الآخر سنة 354هـ. وفي طريقه إلى شيراز مر بتلك الجنة الغناء فأُخِذ بجمالها، وكانت مثار إلهامه، فأرسل في شعب بوّان كلمات هي السحر واصفاً ذلك المكان الفريد وقد خلع عليه الربيع أزهى حلله. لم يكن الشاعر ميالا لزيارة شيراز وأميرها لولا إلحاح ابن العميد وزير والده ركن الدولة. إن مروره في شعب بوان أيقظ في نفسه مشاعر لا عهد له بها في كثير من الأماكن الجميلة التي شهدها من قبل ولم تستأثر بخياله ولا حظيت بإعجابه، بدءاً من سواد العراق مروراً بطبريا وأنطاكية وبساتين حمص وحلب وحتى غوطة دمشق وحدائق نيل مصر. وقبل أن يصل الشاعر إلى مدح الأمير الديلمي، استهلّ قصيدته بوصف الطبيعة التي سلبت لبّه، فقال:

محمد أحمد- السويدي

 

 مغاني الشعب طيبا في المغاني                       بمنزلة الربيع من الزمان

ــ 1ــ

لكن الشاعر الذي اختزن في ذاكرته تجربة نصف قرن من حياته الغنية الصاخبة وعصره الحافل بالأحداث الجسام، سرعان ما استدرك نظرته المأخوذة بروعة الطبيعة ليقول:

ولكن الفتى العربي فيها                                 غريب الوجه واليد واللسان

الوجه واليد واللسان.. كلمات ثلاث، إنما تختصر تاريخ أمة وحضارة وذاكرة أدبية وعلمية واسعة لا تحيط بها خزائن الكتب. وقد بلغت غربة العربيّ في تلك الأرض أقصاها، حتى تصور الشاعر أن سليمان لو سار فيها لاحتاج إلى ترجمان يفك له غموض لغة أهلها ويستجلي ما وراء اختلاف ملامحهم وعاداتهم. ولم تشغله مظاهر الاختلاف بين الأقوام طويلا، بل أخذ يغوص في تفاصيل الجمال المحيط به ويستغرق في دقائق جزئياته، فلم يغفل عن تأمل قطرات الندى وهي تتساقط من أوراق الأغصان وتترقرق كاللآلئ على أعراف الخيل، وراقه ضوء الشمس يتسللّ من بين الأوراق ملقياً على الثياب قطعاً مستديرة كالدنانير تفرّ من البنان فلا يمكن الإمساك بها، ثمّ التفت إلى الثمار اليانعة يتأملها وقد شفّ قشرها عن شرابها الصافي، وسرح بخياله مع الجداول التي تحاكي في انسيابها معاصم الحسان الناعمة، وراح يصغي إلى سقسقة جريانها على الحصى كصليل الحليّ في معاصمهنّ.

ها قد أصبح شاعر السيف الذي لا يشقّ له غبار، يحمل ريشة الرسّام يلوّن بها ملامح الطبيعة التي تجاوزت بمحاسنها أرض البشر ودخلت في عالم الجن، يقول:

مَلاعِبُ جـِنةٍ لَو سـارَ فيهـا                     سُلَيمانٌ لَسـارَ بِتَرجُمـانِ

طَبَت فُرسانَنا وَالخَيلَ حَتّى                    خَشيتُ وَإِن كَرُمنَ مِنَ الحِرانِ

غَدَونا تَنفُضُ الأَغصانُ فيها                   عَلى أَعرافِها مِثلَ الجُمـانِ

وَأَلقى الشَرقُ مِنها في ثِيابي                    دَنانيراً تَفِر مـِنَ البَنانِ

ويروى أنّه لمّا بلغ أبوالطيّب هذا البيت، قال له عضد الدولة: والله لأُقِرنها بين يديك، فنثرت دنانير الذهب على الشاعر. ويواصل أبوالطيّب نشيده، قائلا:

لَها ثَمَرٌ تُشيرُ إِلَيكَ مِـنهُ                         بِأَشرِبَةٍ وَقـَفنَ بِلا أَواني

وَأَمواهٌ تَصِل بِها حَصاها                       صَليلَ الحَليِ في أَيدي الغَواني

لقد بلغ ولع الشاعر بالطبيعة حداً جعل حصانه ينطق كآدمي، فلم يتردد في بث شكواه ولوم فارسه على ترك مثل هذا المكان الرائع المتفرد بجماله حتى كأنه قطعة من الجنة:

يقول بشعب بوّانٍ حصاني:                    أعن هذا يسار إلى الطّعان؟!

أبوكم آدمٌ سـنّ المعاصي                       وعلّمكم مفارقةَ الجـنان

ــ 2ــ

وفي هذه القصيدة الذائعة الصيت، نمر بمدح عضد الدولة وهو في الثلاثين من العمر، لكننا نفاجأ بأن الشاعر لم يكتفِ بمدح الأمير، بل التفت إلى ولديه إذ يقول:

وَلَم أَرَ قبلَهُ شِبلَيْ هـِزَبرٍ                      كَشِبلَيهِ وَلا مُهرَي رِهانِ

أَشـَد تَنازُعاً لِكَريمِ أَصـلٍ                     وَأَشبَهَ مَنظَراً بِأَبٍ هِجانِ

وَكُنتَ الشَمسَ تَبهَرُ كُل عَينٍ                فَكَيفَ وَقَد بَدَت مَعَها اثنَتانِ

فَعاشا عيشَةَ القَمَرَينِ يُحيا                    بِضَوئهِما وَلا يَتَحاسَدانِ

هذه الالتفاتة اللماحة من الأمير إلى طفليه الصغيرين تسترعي الانتباه وتدعونا للتأمل وانتظار أحداث الزمان الذي لا يقر له قرار من كثرة التقلب والاضطراب. فالأرجح أن شيرزيل الولد البكر كان في الثالثة من العمر، بينا المرزبان كان قد ناهز الواحدة، عندما أسبغ الشاعر عليهما هذا الثناء. ترى هل عاش الابنان عيشة القمرين التي تمنّاها الشاعر أم أنّه قد حدس بذرة الخلاف هاجعة بينهما وشعر بدبيب الحسد كامنا في تلك العيون الصغيرة قبل زمان مبكر من الأحداث التي عصفت بهذه الأسرة؟

ــ 3ــ

كان مصرع المتنبي في سبتمبرمن ذات السنة 965م/354 هـ أواخر رمضان وهو في طريق عودته إلى موطنه الكوفة، قريباً من مكان يسمّى دير العاقول، على يد قاطع طريق يدعى فاتك الأسديّ وهو خال ضبّة بن محمد الأسدي. وتتقاطع الروايات أن المعركة جاءت ثأراً من قصيدة نسبت إلى أبي الطيّب وادعى خصومه أنه نظمها في هجاء ضبّة، وظلّ الشاعر ينكر نسبتها إليه كلّما سئل عن ذلك، لكن الباحث المدقق لا يملك الوصول إلى يقين قاطع في الأمر، وإن كان ركب الشاعر مثقلاً بكنوز تغري أكبر عصابات السلب وقطاع الطرق في ذلك الزمان.

ــ 4ــ

بعد سنتين من مصرع المتنبي، غيّب الموت ممدوحَيه: سيف الدولة الحمداني أمير حلب وكافور الإخشيدي حاكم مصر. وفي السنة ذاتها مات كذلك سلطان بغداد معزّ الدولة أحمد بن بويه، وخلفه ابنه بختيار الملّقب بعزّ الدولة وهو في الثالثة والعشرين من العمر. وممّا يقال إنّه لمّا حضرت معز الدولة الوفاة وصّى ولده بطاعة عمّه ركن الدولة وابنه عضد الدولة من بعده، واستشارتهما في كل ما يفعله، خصوصاً أن ابن عمه أكبر منه سناً، وأقوم بالسياسة، لكنّ الفتى خالف وصية أبيه، ولم يطل استقرار حكم بغداد له أكثر من 10 سنين.

ولعل المقام يقتضي منا أن نعرف: من هم بنو بويه؟

يوم توجه أبوالطيب المتنبي من الكوفة إلى أرجان لزيارة ابن العميد، ومن ثم إلى شيراز، كان ثلاثة أخوة من بني بويه يحكمون العراق وأرجاء واسعة من إيران وهم: علي الملقب بـ«عماد الدولة»، حسن «ركن الدولة» وأحمد «معز الدولة»، وهذا الأخير دخل بغداد في منتصف 334هـ/ أواخر 945م. وقد استمر حكمهم في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، وهم من سلالة الديلم الساسانية، حتى 447هـ/ 1055م. ومن أهم حكام هذه الأسرة فناخسر «عضد الدولة»، ابن ركن الدولة، الذي استطاع أن يفرض سلطانه على دولة واسعة الأطراف شملت العراق وشطرا من بلاد فارس.

لم يكن طيف بغداد غائباً عن بال هذا الأمير، لكن الفرصة لم تواته حتى 367هـ يوم سار إليها لنجدة ابن عمّه في ظاهر الأمر على ثائر تركيّ يدعى الفتكين ملك بغداد. فكتب بختيار إلى ضبة بن محمد الأسدي، من أهل عين التمر، يأمره بالإغارة على أطراف بغداد، وبقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان. وتبين هذه الواقعة أن ضبّة كان يأتمر بأوامر بختيار في قطع الطريق، وربّما بأوامر والده معز الدولة من قبل. وأظنّ أنّ معزّ الدولة لم يكن راضياً عن اتصّال شاعر العرب الأكبر بابن أخيه عضد الدولة الفتى المتوثب للملك وهو من أثر عنه قوله: «الدنيا أضيق من أن تسع ملكين اثنين».

لكن ما إن استقر عضد الدّولة في بغداد في ذلك العام حتّى أرسل بختيار إلى الحبس في قلعة نائية، ثمّ أمر بقتله بعد ثلاث سنين.

ــ 5ــ

لم يحسن أبوالطيّب تقدير التقاطعات السياسيّة الشرسة لهذه الأسرة الفارسيّة التي كان هو أحد ضحاياها. ترى هل ألّبت عليه الأبيات التالية معزّ الدولة أحمد بن بويه حاكم بغداد، فأمر بني أسد باغتيال الشاعر في طريق عودته؟ أراني أميل إلى الاعتقاد بذلك، وإن تركنا الباب مشرعاً لاحتمالات أخرى. يقول أبوالطيّب:

يُشَردُ يُمنُ فَنّاخُسرَ عَنّي                  قَنا الأَعداءِ وَالطَعنَ الدِراكا

وَأَلبَسُ مِن رِضاهُ في طَريقي           سِلاحاً يَذعَرُ الأَبطالَ شاكا

وَمَن أَعتاضُ عَنكَ إِذا افتَرَقنا           وَكُل الناسِ زورٌ مـا خـَلاكا

وَمـا أَنا غَيرُ سَهـمٍ في هـَواءٍ            يَعودُ وَلَم يَجِد فيهِ امتِساكا

حـَيِيٌ مِن إِلـَهي أَن يَراني                وَقَد فارَقتُ دارَكَ وَاصطَفاكا

ولعلّ سببا آخر كان وراء مقتل أبي الطيّب، وذلك ذوده عن سمعته كفارس في تلك المعركة (الخطّة) التي كان بإمكانه الخلاص منها بالنفس سالمة، فلقد اعتاد النفاذ من كثيرٍ من المآزق، إذ يقول:

وضاقت خطة فنفذت                   منها نفاذ الخمر من نسج الفدام

وربّما صونا للعطايا السخيّة التي أثقله بها عضد الدولة التي كان يحملها في رحلة الإياب فكانت نقمة أقرب منها نعمة. قال أبو الطيّب:

وَقَد حَملتَني شُكراً طَويـــلاً            ثَقيلاً لا أُطيقُ بِهِ حَراكا

أُحاذِرُ أَن يَشُق عَلى المَـطايا          فـَلا تَمشي بِنا إِلّا سِواكا

وَكَم دونَ الثَوِيةِ مِن حَزينٍ            يَقولُ لَهُ قُدومي ذا بِذاكا

وَمِن عَذبِ الرُضابِ إِذا أَنَخنا        يُقَبلُ رَحلَ تُروَكَ وَالوِراكا

قيل إن تروك كانت ناقة لعضد الدولة زعموا أنّه لم يُرَ لها نظير.

ــ 6ــ

قال ثابت بن هارون الرقّي النصراني يستثير عضد الدولة للثأر للمتنبي من فاتك وبني أسد بقوله:

الدهـرُ أغـدرُ والليالي أنكـدُ             من أن تعيش لأهلها يا أحمدُ

قصدتكَ لما أن رأتك نفيسَها           بخلاً بمثلك والنفائسُ تُقصدُ

وفيها يقول:

يا أيها المـلكُ المـؤيد دعـوةً           ممن حشاه بالأسـى يتوقدُ

هذي بنو أسدٍ بضيفك أوقعت       وحوت عطاءك إذ حواه الفدفدُ

وله عليك بقصده يا ذا العـلى        حـق التحرمِ والذمامُ الأوكـدُ

فارعَ الذمامَ وكنْ بضيفك طالباً    إن الذمامَ عـلى الكريم مؤبدُ

ارعَ الحقوقَ لقصدِه وقصيدِه        عضدَ الملوكِ فليس غيرُك يُقصَدُ

كما رثاه محمد بن عبيد الله بن محمد الكاتب النصيبي واستجاش عضد الدولة على الثأر للمتنبي من مريقي دمه:

قَرتْ عيونُ الأعادي يومَ مَصرَعهِ وطالما سجمتْ فيهِ مِنَ الحسَدِ

ومنها:

أبا شُجاعٍ فتى الهَيجا وفارسَها        ومُشتري الشكرِ بالإنفاقِ والصفَدِ

هذي بَنو أسَدٍ جاءت بِمؤيِدَةٍ           صَمّاءَ بائحةٍ هَدّت ذُرا أُحد

سطت على المتنبي من فوارسِها     سَبعونَ جاءَته في مَوجٍ من الزَرَد

فاطلب بثأرِ فَتىً ما زِلتَ تَعضدُه    للهِ دَركَ من كف ومن عَضُدِ

أذكِ العُيونَ عليهم أيةً سَلَكوا         وضيقِ الأرضَ والأقطارَ بالرصَدِ

شَردهُمُ بجيوشٍ لا قِوامَ لها          تَأتي على سَبدِ الأقوام واللبَد

ولقد استجاب عضد الدولة بن بويه للنداء، لكن بعد مضيّ 13 عاما، أي بعد أن اشتدّت شوكته، وذلك بعد أن استقر في بغداد، اجتثّ حكم ابن عمه فأقام النظام، وأخمد الفتن، ونشر العدل، فاستقامت له الأمور.

أرسل سرية إلى عين التمر عام 369 هـ، وبها ضبة بن محمد الأسدي، فلم يشعر إلا والعساكر تداهمه، فترك أهله وماله ونجا بنفسه فريداً، وأخذت العساكر ماله وأهله إلى بغداد، وملكت عين التمر. ها قد جاء انتقام الملك للشاعر من ضبّة بأن خطف جميع أهله وولده وماله حتى راح يبثّ أحزانه الحجر.

الملك النائم في تابوت

ــ 1ــ

كان عضد الدولة معجبا بالشاعر أبي الحسن السلامي وهو على علاقة وطيدة معه، وعندما توجه إلى بغداد سنة 367هـ، مارا بشعب بوان بزغت رائعة المتنبي في خاطره فالتفت إلى السلامي قائلاً: ماذا تقول في الشعب، بعد ما قاله المتنبي؟ فعاد الشاعر إلى خيمته وكتب:

اشرب على الشعب واحلل روضَه الأُنُفا      قد زاد في حسنه فازددْ به شَغَفا

إذ ألبس الهيف من أغصانه حُلَلا              ولقنَ العُجمَ من أطياره نُتَفا

وثمـرت حسـنه الأغصان مثمرة            من نازع قرطا أو لابس شنفا

والماءُ يَثني على أعطافها أزرا              والريح تعقد في أطرافه شرَفا

والشمسُ تخرق من أشجارها طَرَفًا         بنورها فترينا تحتها طرفا

وكان عضد الدولة يقول: «إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إلي، ووقف بين يدي».

وللسلامي هذه الأبيات السائرة في عضد الدولة:

إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ        قصارى المطايا أن يلوحَ لها القصرُ

فكنت وعزمي في الظلامي              وصارمي ثلاثةَ أشياءٍ كما اجتمع النسرُ

وبشرت آمالي بمَلْكٍ هو الورى          ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهرُ

كيف لسلطان، مهما بلغ، أن يطلع على صفحات الغيب ليعرف من عطارد: أهو ابوالحسن السلامي أم الشاعر الذي قضى قرب دير العاقول قبل سنين؟

يعتبر عضد الدولة من أهم حكام بني بويه، وقد اجتهد في عمارة بغداد والطرقات، وأجرى النفقات على المساكين والمحتاجين، وحفر الأنهار وبنى المارستان العضدي وأدار السور على مدينة الرسول، وكان أديباً مشاركاً في فنون من العلم حازماً لبيباً. وقد استطاع أن يحكم دولة واسعة الأطراف شملت العراق وشطرا من بلاد فارس.

لم يكدّر صفو السنوات التي حكم فيها عضد الدولة بغداد، وهي خمس ونيف، إلاّ الموت. ففي 372 هجريّة، اشتدت علة الملك وهي ما كان يعتاده من الصرع، فضعفت قوته عن دفعه، فمات في ثامن شوال ببغداد، وهو في الثامنة والأربعين من عمره، وكتموا نبأ موته نحو ثلاثة أشهر، ولم يصرحوا به حتى محرّم من العام التالي. كان الملك مسجّى في التابوت عندما قام القصر أو سيّدة القصر بتهيئة الدولة لاستقبال المرزبان الابن الأصغر خلفاً لأبيه، فأبعد شيرزيل النجل الأكبر لحكم شيراز، وصدرت المراسيم بعزل قادة الملك الميت وأتوا عوضاً عن حرس الملك القديم بوجوه المرحلة الجديدة من الحكم.

ولمّا جلس المرزبان الملّقب بصمصام الدولة في محرّم عام 373 هجريّة للعزاء، أخذ شيرزيل الابن البكر الملّقب بشرف الدولة يعد العدّة لاسترداد حقه في ملك العراق من أخيه الأصغر فخاض غمار حروب كثيرة حتّى تمكّن من ذلك بعد ثلاث سنين ونيف.

ففي سنة 377 هجريّة بلغ شرف الدولة واسط فملكها. وأدرك صمصام الدولة أن لا طاقة له في مواجهة القوة الداهمة، فاستشار أصحابه في أن يقصد أخاه ويدخل في طاعته، ولعلّه استشار أمّه أيضاً، فنهوه عن ذلك، وقال له بعضهم: الرأي أن نصعد إلى خراسان وأصبهان، فأعرض صمصام الدولة عن الجميع، وسار في زورق عبر النهر قاصدا أخاه شرف الدولة في خواصه، فوصل إليه ولقيه في خيمة أعدّت له وطيب قلبه. وقيل إنّ صمصام الدولة عضّ أصابع الندم، لكن بعد فوات الأوان. فما إن خرج شرف الدولة من عنده حتى أمر بالقبض عليه، ثم غيّب في ظلمات سجن في قلعة نائية.

لكن مكر التاريخ لا يؤمن جانبه، وهو دائماً بالمرصاد. فقد غيّب الموت شرف الدولة بداء الاستسقاء سنة 379 هجريّة. وكان من المفارقات التاريخيّة أن خادماً يدعى نحرير أشار على شرف الدولة بقتل أخيه فكان يعرض عن كلامه. فلما اعتلّ واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له: الدولة مع أخيك على خطرٍ، فإن لم تقتله فاسمله. فأرسل في ذلك محمداً الشيرازي الفراش، لكن شرف الدولة مات قبل أن يصل الفراش إلى غرضه، فلما وصل إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سمله. ثم استشار أبا القاسم العلاء بن الحسن ناظر القلعة، فأشار بذلك، فسمل عينيه. وكان صمصام الدولة يقول بعد ذلك: ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى فيّ حكم سلطان قد مات. هل صدق أبو الطيّب في حدسه أن شِبلَيْ عضد الدولة سيؤولان إلى هذا المآل؟ ربّما، فقد خبر الشاعر تغيّر الدول وتحوّلات الزمان. يقول أبو الطيّب:

فَذي الدارُ أَخوَنُ مِن مومِسٍ           وَأَخدَعُ مِن كَفةِ الحابِلِ

تَفانى الرِجالُ عَلى حُبها               وَما يَحصُلونَ عَلى طائِلِ

ــ 2ــ

لم ينتهِ المطاف بالصمصام الأعمى إلى هنا؟ فلقد استعاد حريّته بعد موت أخيه شرف الدولة، وملك شيراز، وخاض غمار حروب كثيرة في مملكة فارس، وقاتل أخاه ملك بغداد الجديد فيروز الملّقب ببهاء الدولة إلى أن دخلت سنة 388 هجريّة التي ضاق فيها الديلم ذرعا بالصمصام وأمّه. واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين من قبله، فخدعا الموكلين بهما في سجن القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً من الأكراد وخرجا في إثر الصمصام الذي ثار عليه الديالمة. وتحير صمصام الدولة في ما يفعل، ولم يكن عنده من يدبره. فأشارت عليه بطانته المقرّبة بالخروج من شيراز، فخرج منها ومعه أمّه وذخائره وأمواله، لكنّ الفتى الأعمى وجد نفسه وأمّه وحيدين لمّا تناهب الجنود الذين معه الذخائر والأموال ووثب بصمصام الدولة رجل يدعى طاهر فأخذه وأمّه فقتله واحتزّ رأسه فاتى به إلى أبي نصر. فقال أبو نصر ابن بختيار يخاطب الرأس المقطوع: هذه سنّة سنّها أبوك! يعني ما كان من قتل عضد الدولة والده بختيار.

وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة، ومدة إمارته بفارس تسع سنين، أما والدته فسلمت إلى أحد قواد الديلم، فقتلها وبنى عليها دكة في داره، فلما ملك بهاء الدولة أبونصر الأخ الأصغر فارس سنة 389 هجريّة أخرجها ودفنها في تربة بني بويه، واقتص من أبي نصر قاتل أخيه فقتله في السنة التالية.

كلمة أخيرة

إن كلمة «الحسد» في قصيدة الشاعر هي التي شغلتني طويلاً ودفعتني إلى التنقيب في بطون التاريخ بحثاً عما آل إليه أمر الأخوين. ولولا هذه القصيدة ما كان لأولئك الأمراء من سيرة تذكر على مر الأجيال. القصيدة وقائلها مازالا يعيشان بيننا، وما تبقى ليس أكثر من ملك مسجى في تابوت.

تويتر