«إيه في أمل» ضمن ألبوم تأخّر صدوره

فــيروز فـي «عُـهـدة» زياد الرحـباني

فيروز في حفلها الأخير في بيروت أول من أمس حيث قدّمت أغنيات من ألبومها الجديد. رويترز

تذكّرنا فيروز بالأمل. القليل منه وسط هذا الضيق الذي يدفعنا الى الصراخ: إلهي من أين هبطت علينا كل هذه الخيبات؟ كل ما في حياتنا حصلنا عليه بالتقسيط إلا الخيبة سدّدنا ثمنها دفعة واحدة.

ظهور فيروز في حفلين متتاليين، وصدور ألبوم غنائي جديد، كان متوقعاً العام الماضي، بدد مخاوف كثيرة. كل ذلك اللغط، والتشويش، مشكلات الورثة، محاولات تمييع خصوصية علاقة الأخوين رحباني والتي انتجت واحداً من أبرز المشروعات الموسيقية ليس على مستوى الوطن العربي وحسب. انغرس مشروع الرحابنة المتوج بصوت فيروز في الوجدان العربي، وشكّل وطناً بديلاً أو موازياً. شيء ما يشبه القداسة التي من العار تلويثها. لماذا لا يتقاسمون المال بعيداً عنا؟ وليتركوا لنا حصتنا في كل هذا الجمال.

هذه العودة لفيروز نستقبلها نحن العرب بكثير من التفاؤل، لكن الحدث في لبنان له وقع آخر. ظهورها جاء في توقيت حساس جداً. لبنان المنقسم بأمسّ الحاجة لمن ينتشله من كل هذا الضياع. وحدها فيروز خارج موضع الشك. لذلك بدا لبنان المختلف حتى على لون السماء زاحفاً بكل أطيافه لينسى همومه تحت سماء فيروز التي أطلت على جمهورها في لبنان للمرة الأولى منذ عام .2006

بمزاج آخر

الحصول على أغنيات فيروز الجديدة هو تجربة بحد ذاتها. سيبدو كل شيء باهتاً من حولها. وجهها المحبب مغمض العينين يشبه وردة حمراء في حقل من الثلج. غلاف بسيط جداً كتب عليه «إيه في أمل». ثمة أمل تشير إليه فيروز بأصابع ابنها زياد. مرة جديدة نقطف من ثمار شجرة فيروز وزياد. ثمار بمزاج آخر، كل شيء جائز فيه. زياد يصر على جعل فيروز ابنة زمنها. ليست من كوكب آخر، ولا هي سفيرتنا إلى نجوم بعيدة. فيروز أقرب مما نتخيل، بل هي شريكة لنا في همومنا اليومية، تتقاسم معنا تلك التفاصيل اليومية الصغيرة التي تزين أيامنا بأفراح وأحزان كثيرة. الأمل في أغنيات فيروز الجديدة لا يعد بأشياء خارقة. يذكرنا بما نغفل عنه في حياة نتناساها «نضيعها في العيش». كتب زياد ولحّن كل أغنيات الألبوم. باستثناء الشعبي القديم «البنت الشلبية»، وقصيدة لجبران خليل جبران، والأغنية الشهيرة «بكتب اسمك يا حبيبي» التي أعاد زياد توزيعها والتدخل في كلماتها فصارت «بكتب أساميهن»، ويبدو أن زياد أراد أن يوجه تحية واضحة للرحابنة لمنصور وعاصي وإلياس. ويمكن لهذه الأغنية أن تكون رداً على كل ما حدث من خلافات في الفترة الماضية.

يتضمن «إيه في أمل» 12 محطة، بينها مقطوعتان موسيقيتان «ديار بكر»، و«تل الزعتر»، بعض الأغنيات غنتها فيروز سابقاً لكنها غير مسجلة ولا يعرفها إلا الجمهور الذي حضر حفلات فيروز الأخيرة في مهرجان «بيت الدين»، منها «قال قايل»، «قصة صغيرة كتير»، «الله كبير»، «ما شاورت حالي»، إضافة إلى توزيع جديد لأغنية «كبيرة المزحة هاي».

عالم زياد

مشروع زياد الموسيقي حاضر بقوة في هذا الألبوم. خلاصات يمتزج فيها الشعبي، والكلاسيكي، استفادة عميقة من خصوصية الموسيقى الشرقية بعد دمج مفرداتها في فضاء من الجاز، والفانك، والكلاسيكيات الغربية. لاينجز زياد أغنية من دون أن يكسوها من لحم الحياة اليومية. ما يكتبه لايمكن اعتباره قصيدة غنائية، بقدر ما هو تطويع للكلام العادي ليأخذ نسقاً يتوافق مع الجملة الموسيقية التي يصنعها. هي البساطة المدهشة. البساطة المعقدة، التي تضعنا أمام مشاعر جارحة، وقاسية. هي سلسلة من المكاشفات، وفي كل أغنية ثمة إمرأة تحاسب بوعي ذاتي كبير. امرأة خرجت عن صمتها لندرك أنها لم تكن غافلة عن كل ما كان يحدث. لكن «الخبزوالملح، والرضا» يعدان بشيء من الأمل. سكوتها كان وعياً عميقاً بسذاجة الرجل، قدرته المريبة على التخريب والهدم ثم الندم. يبدو ان الرجل يحب الندم، يدمنه مع الوقت، ثم يعتاده وينساه.

فيروز ليست خارج هذا المشروع، بوعي كبير منها مشت في عالم زياد. ترجلت من المكان الذي تجلس فيه مثل أيقونة غامضة، وغنت له ما كان مفاجئاً ومباغتاً أول الأمر. رهان فيروز كان دقيقاً وذكياً. فيروز في عهدة زياد فنانة أخرى تماماً. رومانسية الستينات لا تصلح في زمن صار العشاق فيه ملولين جداً. ولم يعد فيه المحب ينتظر على المفارق، وتحت المطر، ولم تعد الرسائل تصل مُعطرة ومكتوبة بأصابع مرتجفة، وعيون دامعة.

شراكة الأم والابن

من جديد تضعنا شراكة فيروز وزياد أمام مساحة من الضوء والإبداع. إنهما معاً يشكلان مرحلة جديدة في الأغنية العربية، خصوصاً حين نتحدث عن الموسيقى مشروعاً ثقافياً ونهضوياً. تمضي أغنيات هذا الألبوم إلى مناطق محفوفة بالألم، مكاشفات صادمة لكنها تترك الباب موارباً لأمل ما. في الأغنية التي يحمل الألبوم اسمها «إيه في أمل» نذهب إلى مناخ موسيقي حافل بحراك داخلي، قالب الفالس جعل من صوت فيروز على درجة كبيرة من التأثير. ويبدو واضحا اشتغال زياد على صوت أمه، ووعيه لمناطق القوة والضعف فيه، دون تجاهل لعمر فيروز، حيث جعل من الصوت جزءاً عضوياً من الأغنية، ليس مكملاً لها، ولا يأخذها إلى فهم آخر. طريقة الأداء خلقت كل ذلك المناخ المسكون بالبوح والتعب والحب.

جميل وملهم أن تغني فيروز. صدور ألبوم غنائي جديد لها إشارة، وبشارة بأن هذه الأيقونة القادرة على أن تتربع على عرشها وتستريح، لاتزال تمتلك الرغبة في القول والتجريب والمغامرة. فيروز حاضرة بيننا، تواصل الغناء، والعبث بأيامنا بصحبة زياد صانع الفرح.

تويتر