قطاف الزيتون.. فرح كنعاني يثــــــــير غضب المحتل

زيت الزيتون كان أحد أركان حياة الفلسطيني ومقومات اقتصاده ومصدر فرحه الحقيقي. غيتي

للشعب الفلسطيني مواسم زراعية عدة على مدار السنة، كل منها يمثل عرساً حقيقياً يتدفق فرحاً وبهجة لما فيه من المظاهر الفولكلورية المتوارثة، ولكل منها طقوسه وأدواته التي تميزه، لكن قطاف الزيتون يبقى الأبرز والأكثر شهرة؛ لأنه يُعد أهزوجة بهجة، وفرحاً شعبياً، تتناقله الأجيال الفلسطينية منذ أيام الكنعانيين، وتزداد تمسكاً به أياً كانت التغيّرات والظروف، وتعمل على تطويره، وجعله أكثر سهولة، ويمثل بهجة تسكن العقول والقلوب تجسد هوية وطنية ضاربة وموغلة في أعماق التاريخ، وطقوس أصالة تذكي حقد الاحتلال الإسرائيلي، كما أثارت غضب المستعمر البريطاني من قبل، وإضافة الى قطف الزيتون هناك موسم البرتقال والحمضيات، والمشمش، والعنب، وموسم حصاد القمح والحبوب في بداية الصيف.

ولأن زيت الزيتون كان ـ ومازال ـ أحد أركان حياة الفلسطيني ومقومات اقتصاده، ومصدر فرحه الحقيقي، فهو يعمل بكل ما يملك من طاقة وجهد ومال ما له من بساتين الزيتون حولاً بعد آخر ويتعهدها بالعناية والرعاية، كما يفعل مع أبنائه وأسرته، ويعكف منذ بداية كل صيف على إحصاء الأيام المتبقية لهذا العرس الذي يبدأ عادة في أول أكتوبر كل عام، ويستمر حتى ينتهي كل مزارع من جني محصوله واعتصار ما فيه من زيت، وحينما يكون المحصول وفيراً «ماسية» فقد يمتد الموسم بكبار الملاك الى مطلع العام الجديد، ومن لا يملك كرماً أو بستاناً من الزيتون يبحث عن عملية «ضمان» أو «مرابعة» أي الاتفاق مع أحد الملاكين على جني محصوله مقابل كمية أو نسبة محددة من الزيت، وهناك «الضمان المقطوع» أي الاتفاق على أن يأخذ المالك عدداً معيناً من جرار أو صفائح الزيت مهما كانت كمية الإنتاج الكلي.

تظاهرة بهجة



وتنتظر الأسرة من العام الى العام تظاهرة الفرح لتشترك فيها، ففي هذا الموسم تخلو بيوت الأرياف من أصحابها تقريباً حتى الأطفال الرضع يذهبون الى البرية والبساتين مع أمهاتهم وآبائهم، وينصرف الأولاد والبنات الى مدارسهم صباحاً ليتوجهوا فور انتهاء الدوام المدرسي كل يوم الى حيث بقية الأسرة ومن معها من العمال والعاملات بالأجرة للمساعدة في عملية القطاف وجمع المحصول ليعود الجميع الى بيوتهم بعد غروب الشمس.

وعملية جمع الزيتون مزيج من الغناء والتسلية والمتعة أثناء العمل، فالرجال والأولاد عادة يتسلقون الأشجار أو السلم، بينما تعمل النساء والفتيات في التقاط وجمع ما يسقط من الثمار على الأرض في السلال والأوعية، وغالباً ما تربط المرأة أو الفتاة الأطراف الأمامية لثوبها الطويل الى نطاقها «حزامها» لتصبح المقدمة الأمامية للثوب وعاء لجمع المحصول.

وللتغلب على الملل والإجهاد والساعات الطويلة من العمل المتواصل يردد الرجال الأغاني والأهازيج الوطنية والشعبية الفولكلورية المتوارثة عبر الأجيال مثل «العتابا» و«الميجانا» و «على دلعونا» و«أبو الزلف»، و«عالروزنة»، وتردد النساء والفتيات الأغاني الخاصة بهن إذا كن بعيدات على مسافة من الرجال ومتأخرات عنهم في العمل، كما يمكن للجميع الاستمتاع بالاستماع الى سرد القصص والحكايات الشعبية التي تحمل معاني البطولة وقيم الشجاعة والكرم والشهامة والتضحية في سبيل الوطن.

خطوات ضرورية

ويُنقل محصول الزيتون في أكياس من الخيش أو الكتان أو البلاستيك أو النايلون المقوّى من البساتين إلى أماكن التخزين، وإذا كان موعد عصر الزيت بعيداً يكون من الأفضل تفريغ الأكياس في أرضية الغرف أو المخازن أو في ساحات البيوت «الحوش»، وأما إذا كان الأمر يتعلق بانتظار يومين أو ثلاثة فيمكن إبقاء المحصول في الأكياس، وتكون عملية التفريغ ضرورية، بل لابد منها إذا كانت الثمار ناضجة أكثر مما ينبغي، ففي هذه الحالة هناك احتمال لخسارة كمية من الزيت من الثمار التي يضغط بعضها على بعض، أو تراجع الجودة والنوعية في الزيت بسبب التخزين لفترات طويلة في الأكياس.

أما إذا كان موعد اعتصار الزيت في المعصرة فورياً أو قريباً فيتم نقل المحصول من البيت، إضافة الى تحويل الإنتاج اليومي من البساتين الى المعصرة مباشرة، حيث يتم تفريغه في أماكن وأحواض خاصة. وعند لحظة الصفر في المعصرة يتعاون مالك أو ضامن المحصول وأفراد أسرته مع عمال المعصرة في نقله من الأحواض أو تفريغ الأكياس في الحوض الخاص بالأحجار الضخمة للرحى التي تدور في حركة آلية دائرية لهرس ثمار الزيتون وتقطيعها، ومن ثم قذفها الى حوض خاص «للدريس» الثمار المهروسة والمدروسة، لكن هذه الخطوات اختفت تقريباً على الرغم من أن بعضها مازال قائماً في المعاصر القديمة إذ حلت المعاصر الحديثة محل القديمة واختصرت بذلك كثيراً من الجهد والوقت والايدي العاملة.

صابون ووقود

وعلاوة على مادة الزيت التي هي المنتج الأساسي والأول لثمار الزيتون هناك العكر أو العكارة أو «الزيبار» وهي سائل ثقيل القوام أسود اللون فيه قدر من «التفل» المطحون من مخلفات عملية عصر الزيت واستخراجه، وبإضافة مادة «الصودا الكاوية» اليها يمكن تحضير الصابون، وتكون نوعيته أكثر جودة كلما زادت نسبة زيت الزيتون في مكوناته.

أمّا الوقود: فهو الجفت وهو ما تبقى من ثمار الزيتون بعد ضغطها واعتصار الزيت منها وعبارة عن قطع وشظايا النواة الخشبية وبقايا قشر الثمرة وجلدها، ويستخدم الجفت كوقود للتدفئة وتوليد الطاقة الحرارية مثل الفحم والحطب، وإذا ما تم تعريضه لعملية احتراق جزئي يتحول الى مادة وقود طويل الأجل للتدفئة وإشعال وتجهيز التنور بالحرارة الكافية لعملية تحضير الخبز أو طهو أو شواء الطعام، حيث يتميز الجفت بطاقة حرارية كبيرة، لكنه لم يعد يستخدم على نطاق واسع وبشكل يومي بعد التقدم التكنولوجي؛ ما أدى الى الاستغناء عنه لأنه لم يعد هناك استخدام للتنور أو الطابوق، وحلت محلهما المخابز الآلية والمدفأة التي تعمل بالغاز أو الكهرباء.

أدوات ومعدات

ويستخدم الفلسطينيون لجني المحصول عن الشجر، والتقاطه وجمعه عن الأرض، أدوات ومعدات معروفة لديهم توارثتها الأجيال منذ وقت طويل، وطرأ عليها تطوير في العقود الأخيرة بما يزيد من سهولة عملية القطاف والجمع وسرعتها، وأهم هذه المعدات: العصا «العبّية» التي هي عصا طويلة يقل سمكها وقطرها وتستدق كلما اقتربت من نهايتها، وتكون غليظة عند المقبض، ويحتاج المزارع الى أكثر من عبية مختلفة في طولها طبقاً لارتفاع الشجرة وعلو أغصانها.

والسلم أو «السّيبة» وكان الفلاح الفلسطيني قديماً يصنعه محلياً من جذوع بعض الأشجار الحرجية والبرية المعروفة بطولها وقوة خشبها ومقاومته للحرارة والأمطار مثل البلوط أو الخروب أو السرو أو الصنوبر، ولذا كان ثقيل الوزن يسبب الإجهاد لكل من يحمله لمسافات بعيدة بين الطرقات الوعرة والضيقة، لكن صناعته شهدت تقدماً في العقود الأخيرة وأصبحت تتم بآلات حديثة، ومن نوعية أخشاب تجمع بين مواصفات القوة وخفة الوزن ومقاومة تقلبات الطقس، واستخدام المسامير المعدنية بدلاً من الخشبية، بل أصبح من الممكن تصنيع السلم من الألمنيوم أو النيكل وهما أقل وزناً من الخشب.

والسلة وهي وعاء لجمع الثمار، وكان يتم تصنيعها يدوياً ومحلياً من أغصان غضة رفيعة وطويلة ومرنة من الزيتون أو البلوط، وبأحجام مختلفة، وأحياناً يكون لها ذراع هلالية الشكل للإمساك بها أو تعليقها باليد أثناء عملية القطف أو الجمع، وإذا كانت السلة من عمل المرأة فتكون مصنعة من قش وأعواد القمح. والبساط الذي هو قطعة كبيرة مربعة أو مستطيلة من الخيش أو القماش السميك أو البلاستيك المرن أو النايلون المقوى الذي يتحمل ضغط العمل وتقلبات الطقس، حيث يتم بسط هذه القطع تحت الأشجار وعلى أطرافها ولها فائدة عظيمة، خصوصاً إذا كان حول الشجرة أكوام من الحجارة أو نباتات شوكية، إذ تتساقط الثمار عليها مما يوفر جهداً كبيراً بالنسبة للأيدي العاملة. ويكون جمع الثمار عن البساط أسهل بكثير من التقاطها وجمعها عن الأرض بالأيدي العاملة التي يتم توجيهها للاستفادة منها على نحو أفضل في قطف الثمار عن الأغصان. والماكينات الحديثة بدلاً من الأيدي العاملة وما تستغرقه من جهد ووقت في القطاف، تم تطوير آلات وماكينات بتقنية حديثة للقطف من خلال الإمساك بها وتمريرها على نهايات الأغصان لتقوم بفصل الثمار عن الأغصان، ويبدو موقف المزارعين لهذه الآلات إيجابياً من حيث السرعة في الإنجاز وتوفير الجهد والوقت، لكنهم يأخذون عليها أنها تقوم بتكسير النهايات الطرية والغضة للأغصان وإتلافها، ما يضر بنمو الأشجار وتجديد حيويتها بعد انتهاء موسم القطاف.

سارق الفرح


يتضاعف اهتياج جنود الاحتلال ومستوطنيه كلما جاء موسم قطف الزيتون، إذ يتسابقون في ابتكار الوسائل لإفساد الموسم وسرقة فرح الفلسطينيين، وترويعهم، فقد يمنعون الفلسطينيين من التوجه الى بساتينهم لجني المحصول، أو يطلقون عليهم الكلاب والخنازير المتوحشة، أو يفتحون النار عليهم لسرقة ما جنوه وجمعوه في نهاية يوم من العمل الشاق، ويقيمون حواجز التفتيش بدعوى تنفيذ الأوامر العسكرية، أو بحجة التعليمات والاعتبارات الأمنية، خصوصاً إذا كانت البساتين قريبة من المستوطنات أو من جدار الفصل العنصري. إضافة إلى قطع أشجار الزيتون واقتلاعها على مدار السنة، والسطو على تراث شجرة الزيتون وتقديمها للعالم من خلال منشوراته الدعائية والسياحية وطوابع البريد على أنها هويته ورمز تاريخه وتراثه.

كلمات ودلالات

ثمة مفردات يتداولها الفلسطينيون خلال موسم قطاف الزيتون، ولها دلالاتها الخاصة المستمدة، وأهمها:

ماسية: وتعني أن الإنتاج كبير، والمحصول وفير.

شلتونة: وتعني قلة المحصول، وأن الإنتاج قليل الى حد لا يستحق العناء ولا يغطي تكاليفه، ولما كان الزيتون يعطي محصولاً وفيراً في السنة ولا يعطي إلا القليل في السنة التالية فإن الفلسطينيين يتداولون في ما بينهم «سنة ماسية وسنة شلتونة» أو «الزيتون سنة لك وسنة له».

المونة: مشتقة من كلمة التموين على الأرجح، وتعني حاجة الاستهلاك المحلي للبيت أو الأسرة من الزيت حتى الموسم المقبل.

الجدّاد: الرجل الذي يتولى بشكل رئيس جني الثمار عن الشجرة ويتسلقها الى أعلى ما يمكن ويقوم بضرب الأغصان بالعصا أو العبية لإسقاط الثمار.

البدّاد: كل من يعمل المعصرة ولكل عمله على اختلاف في مراحل عملية اعتصار الزيت واستخراجه.

اللقاطة: وتطلق على كل امرأة وفتاة تقوم بالتقاط الثمار وجمعها من الأرض في السلال والأوعية.

العونة: مشتقة من التعاون وتعني انضمام الآخرين للمساعدة مجاناً وبشكل طوعي ويكون هذا من الأقارب أو الجيران أو أبناء الحي والحارة.

الغرسة: الشجرة الصغيرة الفتية وعكسها الزيتونة الروميّة أو الرومانية الضخمة الكبيرة الباسقة المترامية الأغصان.

زيت بكر: الذي تحصل عليه من القطفة الأولى أو الدفعة الأولى التي يتم جمعها وعصرها مباشرة ولا يتم تخزينها بأي شكل وبشأنه يردد المزارعون مقولتهم الشهيرة التي أصبحت مثلاً «من الشجر الى الحجر» أي نقل الثمار مباشرة من الحقل أو البستان الى حجر الرحى في المعصرة.

المقاطعة: كمية الزيت التي يتقاضاها صاحب المعصرة مقابل عصر الزيتون واستخراج زيته وعادة تعادل وحدة مكيال واحدة صفيحة أو جرّة مقابل عدد معين من الوحدات أو المكاييل لمالك الزيتون طبقاً لما هو سائد ومعمول به في كل موسم.

تويتر