في «دلما والغوص على اللؤلؤ بالوثائق البريطانية»

خالد المريخي يوثق سيرة «درة الجزر» الإماراتية

صورة

تسهل المهمة، ولكن تكبر المسؤولية، حينما يحاول ابن من أبناء المكان أن يروي سيرة الحيز الذي نشأ فيه، أو أن يفتش عن تاريخه المتناثر، بين وثائق بعيدة، وصدور أجداد غاب كثيرون منهم، انطلقوا من «درة الجزر» الإماراتية «دلما»، باحثين عن لقمة عيش غاصوا وراءها في قاع خليجنا العربي، التماساً لأصداف عامرة باللآلئ، متحدين المخاطر وكل أهوال ذلك الأزرق الشاسع في زمن ما قبل الطفرة والنفط.

تلك كانت حال الباحث الإماراتي خالد بن عيد بن محمد بن جاسم المريخي، ابن دلما، وأحد أبنائها، مع الجزيرة وذكريات أهلها، وكل ما يرتبط بتلك البقعة الجميلة، ذات الشواطئ الدافئة، التي احتضنت أندر المحار في العالم، والتي تستريح وسط الماء على بعد 210 كيلومترات من العاصمة والجزيرة الأم أبوظبي.

الإهداء

يهدي خالد المريخي - الذي تخرج في جامعة أريزونا الأميركية، وتقلد عدداً من المناصب، من بينها: مدير عام القطاع الداخلي لبنك أبوظبي الوطني، ومدير عام ديوان صاحب السمو ولي عهد أبوظبي، وعضو المجلس البلدي لإمارة أبوظبي، ورئيس مجلس إدارة طيران الخليج - كتابه «إلى رجال الغوص الصناديد البواسل. إلى آبائنا وأجدادنا الشجعان، الذين سطروا ملاحم البطولة والشرف والفداء، وهم يصارعون أمواج البحر العاتية بسواعدهم وصدورهم العارية، متسلحين بالإيمان وأدواتهم البدائية. إلى الذين بنوا مجداً نتفاخر به. إلى أرواحهم الطاهرة، وإلى من بقي منهم، وإلى درة الجزر، وعاصمة اللؤلؤ، وسيدة التراث دلما. أهدي هذا الكتاب عرفاناً بجميلهم ووفاء لحقهم».


310

صفحات يقع فيها «جزيرة دلما» للكاتب الإماراتي خالد بن عيد بن محمد بن جاسم المريخي.

ارتبط المريخي منذ سنوات بعيدة بكل ما يخص «دلما»، تتبع ما ينشر في الصحف والدوريات، ليحفظ ما يقع عليه من أوراق ومرويات، حتى تكوّن لديه أرشيف كبير، ولم يكتفِ الباحث بذلك، إذ أخذت الحكاية منحى آخر، ليذهب المريخي إلى «المكتبة البريطانية والأرشيف البريطاني للاطلاع والبحث عن الوثائق التي أعدها المسؤولون البريطانيون عن جزيرة دلما سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولم تكن مهمة البحث عن تلك الوثائق بالسهلة»؛ ليكون حصاد الرحلة الطويلة من التجميع والبحث كتاب خالد المريخي «جزيرة دلما والغوص على اللؤلؤ في الوثائق البريطانية»، الذي رأى النور حديثاً، ويقع في 310 صفحات، مصطحباً القارئ إلى تاريخ تلك الجزيرة منذ سنوات بعيدة، وحتى شكلها الحالي، مستعيناً بالكثير من المصادر.

«باريس الساحل»

في عام 1816، برز اسم دلما للمرة الأولى في المراسلات البريطانية، كما يوضح المريخي، وذلك عندما زارها الكابتن البحري البريطاني جيمس آشلي مود، في شهر يوليو من ذلك العام، بواسطة السفينة البحرية «فيفوريت»، وشملت رحلته البحرية سبع جزر أخرى – إضافة إلى جزيرة دلما – تقع جميعها قبالة سواحل أبوظبي، ومنذ ذلك الحين دخلت دلما دائرة اهتمام بريطانيا مع بقية الجزر والسواحل العربية.

يتطرق الكتاب إلى اسم الجزيرة المختلف عليه ومعناه، فثمة من يربطه بـ«دلمون»، والذاكرة الشعبية تربطه بـ«دلو ماء»، وآخرون ينسبونه إلى ما كان ينطقه البرتغاليون والإيطاليون: «دلمافيالماس» القريب كذلك من النطق العربي لـ«دلما فيها ماء». هذا عن الاسم، أما الألقاب التي حازتها دلما فهي كثيرة، نظراً لفرادتها، ومن بينها «درة الجزر» و«بومباي الخليج»، و«باريس الساحل»، إذ شهدت تألقاً لسنوات طويلة، واستمدت بريقها من اللؤلؤ المستخرج من أعماق شواطئها والمغاصات القريبة منها، ففي الموسم كان يقصدها تجار من كل صوب، فتقام الأسواق، وتشرع الصفقات على ساحل الجزيرة، ففي تلك الآونة من السنة، كانت تزدحم الجزيرة التي كان عدد سكانها محدوداً «إلى عشرة أضعاف مقارنة ببقية أوقات العام، بسبب قدوم السفن ونواخذتها والطواويش وصيادي اللؤلؤ والغواصين من إمارة أبوظبي وغيرها من الإمارات المتصالحة، وكذلك تجار اللؤلؤ الذين كانوا يأتون إليها من مناطق بعيدة وخاصة من الهند بحثاً عن اللؤلؤ، الذي كان يعتبر سلعة هامة في منطقة الخليج العربي ومن أهم مصادر الدخل – إن لم يكن أهمها جميعاً – للسكان والحكام على حد سواء. كان عدد سكان دلما المقيمين بصفة دائمة في الجزيرة حتى بداية القرن الماضي لا يتعدى خمس عشرة أسرة، وهو ما أكده لوريمر (عمدة المسؤولين البريطانيين الذين كتبوا بإسهاب عن الخليج العربي) في تقريره لعام 1904، حيث ذكر أن دلما يقيم بها 15 أسرة في قرية صغيرة وبرج في المنطقة الغربية من الجزيرة». وتضاعف عدد سكان الجزيرة خلال فترة بسيطة، ليصل إلى نحو 600 شخص، في عام 1937، حسب تقرير للمعتمد البريطاني، كما يذكر خالد المريخي في كتابه، مشيراً إلى أن الجزيرة كانت نقطة استقطاب بشري منذ حقب زمنية بعيدة، وهو ما تنطق به الاكتشافات الأثرية التي عثرت عليها بعثات التنقيب في الجزيرة، مؤكدة أن السكان لم يكونوا بمعزل عن الحضارات المجاورة، وتشهد على ذلك الآبار العذبة (تذكر إحدى الروايات أن دلما كان يوجد بها 200 بئر للمياه).

زمن ذهبي

عن اللؤلؤ، وحكاياته، وارتباط الجزيرة به، يخصص الكتاب مساحة كبيرة، فشواطئ دلما احتضنت أجود المحار وأندر اللآلئ، وشريط المياه الضحلة الذي يحيط بالجزيرة، والذي يتميز بدفئه وملوحته العالية وفر بيئة مناسبة لنمو نوع معين من المحار البحري الفريد، الذي يعرف في عالم التجارة باسم أم اللؤلؤ، وهو محار يتطلب فترة نمو طويلة قد تصل إلى أربعة أعوام، وتتميز صدفاته بقيمتها التجارية العالية، نظراً لأنها المادة الخام الرئيسة التي تدخل في صناعة مقابض السيوف والخناجر، والأزرار وأمشاط الشعر وتطعيم الأعمال الفنية، وقد أهلت كل هذه العوامل دلما لتتبوأ مكانتها بجدارة على قمة مصايد اللؤلؤ للسواحل الجنوبية للخليج العربي والاتجار فيه على حد سواء.

يحكي خالد المريخي عن الجزيرة وزمنها الذهبي، إذ كانت تتحول إلى خلية نحل، يؤمها التجار وتمتلئ مغاصاتها بالغواصين والنواخذة، من أجل الفوز باللؤلؤ، ويعدد السفن التي كانت تحط على سواحل دلما، وأسماء الطواويش والنواخذة، وأشهر محامل دلما أيام الغوص، وكذلك محكمة اللؤلؤ، التي كانت تنظر في القضايا والمنازعات التي لا يتم التوصل إلى حل لها في المساجد.

كما يخصص المريخي في كتابه صفحات لملامح مجهولة من تاريخ الجزيرة وأهلها، وكذلك مساجدها، ومعالمها، وعائلاتها، ولا ينسى الحياة الاجتماعية، وحتى ما يتعلق بالجانب الثقافي، حيث صدح الشعر بين جنبات الجزيرة، وكانت للفن كلمة في تلك البقعة الجميلة، ليؤكد صاحب الكتاب أن دلما لم تنجب فقط «تجار اللؤلؤ والطواشين والنواخذة والغواصين ورجال الأعمال وبناة المساجد والمنازل، بل أنجبت أيضاً الشعراء الذين تناقل سكان دلما وأبوظبي أشعارهم، وتركوا أثرهم في مسيرة الشعر في الإمارة».

تويتر