الرويس يجمع حكايات مستشرقين محبين وآخرين في «مهام غير معلنة»

«خواجات» عشقوا الخيل والبيداء و«النبطي»

صورة

تحفل سير المستشرقين بالكثير من التشويق والغرائب، فأصحابها ليسوا سواء، أو حالة واحدة: بعضهم عشق المكان العربي ومفرداته، وآثر الصحراء والبادية ورمال شبه الجزيرة وشمسها الحارقة، على خضرة أوروبا وجمال أنهارها؛ وآخرون جاءوا في «مهام غير معلنة» لمآرب أخرى، أو لخدمة سواهم ممن أرادوا اكتشاف تلك المناطق العربية المجهولة بالنسبة إليهم، للاستفادة من ثرواتها، وتوسيع إمبراطوريات تنافست على كل بقعة في هذا العالم. لم يقع «الخيّرون» من المستشرقين في حب المكان فحسب، بل في حب ناسه وسوالفهم، حتى فاض الشعر على ألسنة «خواجات»، جمعوا النبطي، وصانوا جزءاً من تراثه، ووثّقوا لهجات قبائل في المنطقة، عاشوا بين أهلها لفترات طويلة، وبعض تلك النماذج كانت تنتمي لعائلات أوروبية عريقة، تسكن قصوراً، وتمتلك مقاطعات، إلا أن سحر الشرق استولى عليها، ولم تجد السعادة في روابي أوروبا، بل عثرت عليها في ربوع الصحراء العربية، وما جاورها من أمكنة.


22 حكاية لـ19 رجلاً وثلاث نساء؛ يتنقل بينها الكاتب قاسم بن خلف الرويس، في كتابه «خواجات وحكايات في الصحراء العربية»، الذي صدر عن «قنديل» للطباعة والنشر بدبي، التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، في 180 صفحة، ويستقي المؤلف تفاصيل من حيوات أولئك المستشرقين، من مصادر بالجملة، عبر خبرة طويلة في تتبع قصص هؤلاء بشكل خاص، وتجميع كل ما يخصهم، لاسيما الكتب المترجمة الصادرة عن المشروع الرائد «كلمة» في أبوظبي.

نافذة على ساحة واسعة

يفتح «خواجات وحكايات في الصحراء العربية» نافذة على ساحة واسعة، ومكتبة متكاملة عن سير المستشرقين بالمنطقة، إذ يوفر أسماء كتب مترجمة عن لغات أخرى، ورد فيها الكثير عن ذكريات المستشرقين ويومياتهم في المنطقة العربية، ورؤيتهم لهذه المنطقة من العالم. غير أن بعض الترجمات احتاطت لنفسها، وآثرت أن تجري حذفاً لأجزاء وردت في تلك اليوميات.

180

صفحة، يضمها الكتاب الصادر عن «قنديل»، التابعة لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة.

22

حكاية واسماً يتنقل بينها الرويس، منها 3 نساء، و19 رجلاً.

الليدي أم اللبن

منذ البداية، يحترز المؤكد، مؤكداً أهمية عدم وضع من طلبوا بلاد العرب في سلة واحدة، أو اتّهام الجميع بأنهم أصحاب أجندات استعمارية، مشيراً إلى «أولئك المغامرين والمستكشفين الذين جاؤوا من تلك البلدان الباردة والأنهار الجارية، ليخترقوا الصحراء العربية من أبوابها المفتوحة، يحملون أرواحهم على أكفّهم، بطموحات منشودة وغايات مقصودة، ولكل منهم هدف مختلف وطريقة مختلفة. ورغم أن جزءاً من الرحلات كان ذا أجندة استخبارية استعمارية بلاشك، إلا أن روح العلم والاستكشاف جعلت من مدوناتهم سجلاً للدارسين والباحثين العرب بعد ذلك بعشرات السنين، لأنهم كانوا يكتبون كل ما يلاحظونه ويوثقونه بدقة، خصوصاً أن كثيراً منهم من المتخصصين ومن ذوي الميول العلمية والأدبية».

لم يقتصر عشق الشرق على الرجال، إذ استهوى نساء أوروبيات، ومن بينهن الليدي جين دغبي، التي امتلكت المال وكذلك الجمال، وصاحبة أحد الصالونات الأدبية، والتي تركت كل ذلك، وارتحلت إلى تدمر، وبدأت قصة حب بينها وبين الشيخ مجول المصرب، لتترك النبيلة الإنجليزية القصور الفارهة، وتقيم في مضارب البدو، تعيش بين أهلها، وتحترم تقاليدهم، فتحلب الناقة، وتجلب الحطب، وتعتني بالخيل: «فحازت إعجاب البدو، ولكن كان أشد ما لفت أنظارهم إليها جمالها وبياض بشرتها، حتى سموها (أم اللبن) ثم (الموضي)، ولم تقم هذه (الموضي) خلال هذه الفترة بزيارة بلدها إلا مرة واحدة عام 1856، ولم تكررها إلى وفاتها»، وذلك بعد أن أصيبت بالكوليرا، ورحلت في 11 أغسطس عام 1881، وكتب على قبرها: «مدام دغبي المصرب».

ومن حكاية النبيلة الإنجليزية، إلى قصة الكونتيسة دوروتيا موليتور، التي أرادات استكشاف الربع الخالي، عبر رحلة بالمنطاد من جدة إلى مسقط، وبالفعل جاءت إلى المنطقة، لكن خلال فترة ملتهبة، يشوبها التوتر في أنحاء العالم (1914)، بسبب الحرب، وأمضت ثلاثة أشهر بالمنطقة، وفرض عليها الترحيل، وتختتم رحلتها بالقول: «سيبقى الربع الخالي هدفي ما حييت».

ثالثة الهائمات بالشرق، واللواتي يعرض الكتاب لطرف من حكاياتهن، هي الرحالة البريطانية آن بلنت، التي كانت هي الأخرى سليلة نبيلات، وتشاركت مع زوجها الدبلوماسي في التعلّق بالشرق، حب الترحال. وتعد بلنت أول امرأة أوروبية «تغامر باقتحام مفاوز صحراء النفود، وتتحمل مشاق السفر ومخاطر الترحال على الإبل، حتى إنها تعرضت هي وزوجها إلى غزو كاد يكلفهما حياتهما».

مغامرات واقعية

حكاية الألماني هربرت بريتسكه، تأتي حافلة بالمغامرات الواقعية، وتصلح لفيلم «أكشن»، كما يقول صاحب الكتاب، فالبطل تنقل بين خمسة بلدان بالمنطقة (مصر، فلسطين، لبنان، السعودية، وعمان)، وكانت البداية مع هروبه من سجن بريطاني في مدينة الإسماعيلية بمصر، عقب الحرب العالمية الثانية، ولجوئه إلى الصحراء، حتى إنه شارف على الموت، لكن أنقذه صبي كان يرعى الغنم، ليعمل بين البدو، ويمارس مهنة الطب في خيمة، وبعدها يتطوع إلى جانب القوات العربية في فلسطين عام 1948، وبعدها ينتقل إلى لبنان حيث عمل في أحد المستشفيات التابعة للأمم المتحدة، ثم يحط رحاله بعد ذلك في الأحساء السعودية، وتكون المحطة الأخيرة في لبنان، التي حصل على جنسيتها ذلك الألماني الذي لقب بـ«الطبيب البدوي».

وثمة طبيب آخر مارس المهنة بين العرب في ديارهم، هو الأميركي بول هاريسون، أحد أطباء البعثة الأميركية على امتداد الخليج من العراق إلى عمان، والذي كتب عن أمراض المنطقة، وطرق العلاج التي برع فيها أهل الجزيرة العربية، ومن بينها عمليات الكيّ بالنار، والمفارقة أن الطبيب الأميركي أصيب بمرض ما «فأعياه علاج نفسه، ولم يجد بداً من اللجوء إلى طب أهل الجزيرة العربية، فكان شفاؤه على يد طبيب عربي لم يستخدم سوى الميسم الحامي».

وصف هاريسون العربي بالكثير من السمات الإيجابية، من كرم الضيافة والوفاء والتدين، وكذلك حبه للحرية، مضيفاً: «إن البيئة قد نزعت كل شيء ناعم وجميل من حياة البدوي العربي، لكن الصحراء تصنع الرجال».

عن الجمل

يخصص كتاب «خواجات وحكايات» مساحة للمبشر صموئيل مارينوس زويمر، الذي فشل في مهمته، ولم يفلح في تنصير أحد، وعلى عكس مدح هاريسون للعرب، يأتي ذم زويمر، غير أنه يصف الجزيرة العربية ببلاد الجمال، وأم الإبل: «فدون الجمل تصبح الحياة في جزء كبير من جزيرة العرب مستحيلة، ودون الجمل تفقد اللغة العربية بحد ذاتها الكثير من التعابير والكلمات، وربما الكثير من أصواتها الصعبة، وعندما تتصفح قاموساً للغة العربية لابد لك أن ترى في كل صفحة ذكراً لسفينة الصحراء الجميلة هذه، وشيئاً عن حياتها، لقد أعطاه العرب 5744 اسماً مختلفاً». تنقل زويمر في نهايات القرن الـ19 بين اليمن والبحرين، كما زار في عام 1901 أبوظبي ودبي والشارقة، وعبّر عن إعجابه بالشيخ زايد الكبير. كما قام برحلة برية طويلة على ظهر جمل بين البريمي وصحار ومسقط، واصفاً الرحلة بأنها كانت الأطول.

هولندي سفير البدو

مبكراً، وقع بعض المستشرقين في عشق الشعر النبطي، فالرحالة الفرنسي شارل هوبر (1837ــ1884) جمع الكثير من القصائد، بعد أن زار مناطق عدة في الجزيرة العربية، والتقى شعراء ورواة وفرساناً، استفاد من أحاديثهم وقصصهم. ويختتم الرويس كتابه مع مستشرق يصفه بأنه «سفير البدو للعالم»، هو الهولندي مارسيل كوربرشوك، الذي تنقل بين العمل الدبلوماسي والأكاديمي، فهو في الأصل باحث في الأدب العربي، ورسالته في الدكتوراه كانت عن المبدع الراحل يوسف إدريس»، ولكنه اشتغل بعد ذلك بالبحث في آداب الصحراء العربية وثقافتها، وعندما عمل في سفارة بلاده في الرياض، فتح نافذة جديدة للاستشراق في آخر القرن الـ20، ولكنه يختلف عن غيره من الباحثين، لشغفه المتواصل بهذه الثقافة، واستغراقه فيها إلى درجة كان يستلذ فيها حرارة الصحراء وسمومها، ويسافر مئات الكيلومترات في سبيل تسجيل قصيدة أو كتابة معلومة أو لقاء شاعر أو سؤال راوية، مفضلاً أن يمضي وقته في مرابع البدو على روابي هولندا الخضراء، حتى تمكن إلى درجة كبيرة من فهم الشعر النبطي واستيعابه، وربما تفوق في تحليله واستلهام مدلولاته أكثر من بعض أبناء الصحراء».

تويتر