سيرة كلوفيس مقصود وشهادته على عصره

«من زوايا ذاكرة» لم تقفز من «قطار العروبة»

صورة

لم يقفز من «قطار العروبة» الذي تعطّل في محطات كثيرة، معتبراً أن الالتزام بالعروبة ليس ترفاً أو خياراً، بل بمثابة مصير لهذه الأمة، لذا يستهلّ سيرته الذاتية ويختتمها أيضاً بها، مؤكداً أنها الثابت الذي لا يسري عليه تقادم الزمن، فـ«فكرها مزروع في النفوس والتاريخ، ومتوارث على مر الأجيال».

دعم إماراتي.. في لحظة

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2016/06/8ae6c6c554dc14260155983b00ed242f.jpg

عندما طُرحَت فكرة إنشاء مركز للدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون في واشنطن، ذهب كلوفيس مقصود إلى صديقه السفير الإماراتي سعيد غباش، مضيفاً: «أخبرته بما حدث، فاقترح أن نتشاور في الأمر مع صديقنا أحمد السويدي، الذي كان وزير خارجية وأحد مستشاري الشيخ زايد، وذلك بعد أن نصحني بالتغلب على شعور الحرج، واقتراح مبلغ كبير، أمسكت القلم بشيء من الحرج، وكتبت على قصاصة ورق مبلغ 20 ألف دولار، لكن غباش رفع سماعة الهاتف، وأضاف صفراً إلى المبلغ، ثم همس قائلاً: هيا، أبلغه عن المبلغ المطلوب! وفي لحظة أصبح في ميزانية المركز مبلغ 200 ألف دولار. والتبرع لتأسيس كرسي بالمركز باسم سيف غباش، عم سعيد.. وكنت قد تعرفت إلى سيف غباش أثناء عملي سفيراً للجامعة العربية في الهند، عندما كان يواصل تعليمه الجامعي هناك، كما تعرّفت إلى العديد من الشخصيات، منهم رجل الأعمال والمشروعات الخيرية جمعة الماجد».


• عنوان الكتاب: «من زوايا الذاكرة.. محطات رحلة في قطار العروبة».

• المؤلف: كلوفيس مقصود.

•عدد الصفحات: 480.

• الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون.

«من زوايا الذاكرة» يحكي الكاتب والدبلوماسي كلوفيس مقصود، الذي رحل أخيراً، مسيرة طويلة، سارداً انكسار الأحلام بقلم غير منكسر، وبروح غير موتورة من أحد، إذ يسجل شهادته على عصره، ومحطات الرحلة في قطار العروبة، منذ أن سمع أمه المسيحية تردد على مسامعه دوماً: «نحن عرب».

تحفل سيرة مقصود بالكثير من الأحداث والشخصيات المؤثرة التاريخية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في العالم، إذ يحضر زعماء ومثقفون ومشاهير بالجملة، من بينهم جمال عبدالناصر وجواهر لال نهرو وأنديرا غاندي وياسر عرفات والحبيب بورقيبة ومحمد حسنين هيكل وكيسنجر، وكثيرون تقاطعت مسيرة حياته معهم في لحظة ما. ورغم كثافة الأحداث، وأيضاً الإحباطات، لا يتصنع صاحب السيرة، ولا ينزلق إلى تصفية الحسابات، بل يتنقل بين الخاص والعام، راوياً بخفة ظل العديد من المواقف، منها ما يتعلق باسمه الشخصي ووقعه على شخصية شهيرة هنا أو هناك، حتى إن البداية تكون بحوار يبعث على الابتسام: «شو إجانا؟ صبي.. بشع بس مهيوب.. هذا ما قاله والدي رداً على سؤال أمي يوم أبصرت النور في الـ17 من ديسمبر 1926 في مدينة برستو في ولاية أوكلاهوما الأميركية».

كان الوالدان (فريد مقصود وماري حنا) قد هاجرا قبل عام من ذلك التاريخ إلى الولايات المتحدة، تلبية لدعوة أحد الأعمام، وحينما بلغ الصبي الثالثة عاد مع أمه إلى لبنان، وترعرع في بلدة الشويفات. واكتشفت الأم ضعف بصر صبيها، فبدأت زيارات طبيب العيون مرة كل شهر. أمنيات الصبي الأولى لم تتجاوز آنذاك أن يصير شرطي سير، لإعجابه بلباسه وبحرصه على سلامة وتنظيم المرور، أو مايسترو فرقة موسيقية، لشدة ما أعجب بحركات رئيس الفرقة الموسيقية عند عزف النشيد الوطني.

ويقول كلوفيس مقصود عن ذكريات البدايات: «كانت والدتي ذات ميول سياسية، فقد كان يحلو لها دائماً ترداد عبارة نحن عرب.. وهي عبارة كان لها أثر بعيد في وجداني السياسي»، لذا يهدي إليها «من زوايا الذاكرة»: «يأتي هذا الكتاب كهدية لذكرى والدتي.. في كنفها تكونت بواكير قناعاتي العروبية، فهي التي ألهمتني بها في سنوات العمر المبكرة، منها تشربت هذه الروح وأخذت الخميرة التي شكلت اللبنات الأولى لالتزامي القومي العربي، وبذلك فهي معلمتي القومية الأولى».

التحق الشاب بالجامعة الأميركية في بيروت، وتشكّل جانب من وعيه خلال عقد الأربعينات، وتزامن سفره إلى أميركا لدراسة الحقوق في جامعة جورج واشنطن، مع تقسيم فلسطين وحرب 1948: «أدركت آنذاك كغيري من العرب مدى فداحة الغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، بل أدركت في الوقت نفسه أنه لن يتأتى لنا مقاومة المشروع الصهيوني، إلا من خلال مشروع عربي قومي نهضوي».

بدأ مقصود الكتابة من زاوية القرّاء ورسائل إلى المحرر، وذلك في «الواشنطن بوست»، إذ كان يرسل بتعليقاته إلى الصحيفة، خلال فترة دراسته، وانتهى من الحقوق، لكنه لم يمارس المحاماة إلا فترة قصيرة، إذ انخرط في العمل السياسي، وبدأ نتاجه الفكري، لاسيما بعد أن حاز شهادة الدكتوراه، في أطروحة عن الاشتراكية العربية، التي كانت أيضاً عنواناً لأول كتبه.

مع مطلع الستينات، بدأ مقصود فصلاً جديداً في مسيرته الحياتية، مع «مرحلة الهند الموعودة» بين عامي 1961 و1966، إذ تعزّز انجذابه للسياسات الهندية جراء تعاطف غاندي ونهرو مع المأساة الفلسطينية، وترأس بعثة جامعة الدول العربية في الهند، كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة جواهر لال نهرو.

مواقف

وبعيداً عن الأحداث الكبرى والأحلام المجهضة لا يخلو سرد كلوفيس مقصود من مواقف طريفة، كما حدث في إحدى الأمسيات الأولى بالهند، إذ فوجئ بأنه في حين شرب سائر الضيوف عصير البرتقال أعطي له عصير الجزر، وبينما تمتع سائر الضيوف بأصناف متنوعة من المقبلات، قدم له هو جزر، وحين عاد إلى الفندق وجد في انتظاره كأساً من عصير الجزر. ويقول: «لاحقاً علمت أن السبب وراء هذه الحمية الخاصة المفروضة علي أنني قلت للسفير في أثناء تناولنا القهوة في وقت مبكر من ذلك اليوم، إن أمي كانت تصرّ في طفولتي على أن آكل الجزر بانتظام، لمساعدتي على التغلب على مشكلتي بالبصر، وقد أخذ السفير كلامي حرفياً».

وفي زيارة له إلى بورما بصحبة المشير عبدالحكيم عامر، كان مرافق كلوفيس مقصود، وزير الأوقاف الإسلامية البورمي، وكان اليوم الأخير في الزيارة هو يوم جمعة، وطلب وزير الأوقاف من كلوفيس مقصود أن يذهب معه للصلاة، وحاول الأخير أن يفهمه بأنه «مسيحي»، لكن الوزير لم يستوعب، واضطر كلوفيس إلى الذهاب معه، ويضيف: «وعندما رآني (عبدالحكيم) عامر، همس في أذني ماذا تفعل هنا؟ قلت له سأخبرك لاحقاً وبدأت بالصلاة، ووجد عامر الموقف بمثابة طرفة، ولاحقاً روى هذه الحكاية لعبدالناصر».

وليس بعيداً عن ذلك ما رواه صاحب الكتاب عن الراحل ياسر عرفات، الذي يصفه بأن كان يتميز بخفة دم قلّ نظيرها لدى كثير من الزعماء العرب، ففي عزاء البابا كيرلس بمصر (1971) «وفور وصولنا، بدأ أبو عمار يعانق ويقبّل الكهنة الموجودين هناك، تعبيراً عن حزنه. كان البابا كيرلس مسجاً على كرسي وسط القاعة، فلم ينتبه عرفات إلى ذلك، وقام بمعانقته وتقبيله ظناً منه بأنه أحد الموجودين هناك كغيره لتقبل التعازي. حين أدرك فعلته نظر إلينا وقال متفاجئاً: دي جثة، ثم استدار ليعانق الكاهن الواقف بجانب البابا بعناق حار وقبلة!». بعد مرحلة الهند، استقر كلوفيس مقصود فترة في القاهرة، وانضم إلى أسرة جريدة الأهرام بعرض من الكاتب محمد حسنين هيكل، لكنه عاد إلى بيروت بعد وفاة جمال عبدالناصر بقليل، ليلتحق بجريدة «النهار».

حظر النفط

بعد حرب أكتوبر عام 1973 وصل كلوفيس مقصود إلى نيويورك مبتعثاً من الجامعة العربية، للقيام بحملة إعلامية لشرح الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتوضيح الأسباب وراء حظر النفط احتجاجاً على تحيّز أميركا المطلق لإسرائيل. وشارك مقصود في مقابلة تلفزيونية على قناة إن بي سي في اليوم التالي من وصوله لأميركا. ويفصّل قائلاً: «اتسمت بداية المقابلة بشيء من التوتر، لاسيما حين افتتحت السيدة والترز النقاش بسؤال غير متوقع: ألا تشعر بالحرج حين تأتي إلى هنا حيث تكتظ الطرقات بمئات السائقين الأميركيين، الذين ينتظرون دورهم أمام محطات الوقود، بسبب حظر النفط الذي جئت تدافع عنه؟! كان السؤال حاداً وغير متوقع في آن معاً، حيث لم أعرف كيف أرد أول الأمر، بل فكرت للحظة في الانسحاب، لكنني عدلت عن ذلك، وقلت بنبرة هادئة: سيدة والترز، اسمحي لي بهذه المناسبة أن أعبر عن اعتذاري للسائقين الأميركيين المنتظرين لساعتين أو ثلاث في محطات الوقود. وما كدت أسترسل في كلامي حتى همهمت السيدة والترز بشيء من الرضا والانتصار، غير أنني حزمت أنفاسي، وتابعت: لكنني أرجو بالمقابل أن يعتذر السائقون الأميركيون بدورهم يوماً ما لكل اللاجئين الفلسطينيين المنتظرين في طوابير الغذاء منذ أكثر من 25 سنة». وتنقّل صاحب كتب «معنى عدم الانحياز»، و«أزمة اليسار العربي»، و«صورة العرب»، بين 32 ولاية، و35 مدينة، يدافع فيها عن القرار العربي بحظر النفط. ويروي أنه أعد مع شفيق الحوت الخطوط السياسية العريضة لفحوى الخطاب الشهير الذي ألقاه عرفات بالأمم المتحدة، بينما ركّز الراحل محمود درويش على الجانب الشعري «بالإضافة إلى الخاتمة الرائعة التي قال فيها عرفات عبارته: لقد جئتكم ببندقية الثائر في يد، وبغصن الزيتون في يدي الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي».

تويتر