البعض وصفها بلغة الأجداد.. وآخرون اعتبروا التكنولوجيا وسيلة لإحيائها

الأمثال الشعبية الإماراتية.. تراث يتعايش مع «الحياة الذكية»

صورة

هل صحيح أن الأمثال الشعبية في طريقها إلى الزوال والنسيان؟ وما الذي حدث لمفرداتنا اللغوية اليومية؟ هل لانزال قريبين من إرثنا الشعبي أم بدأنا نبتعد تدريجياً عن لغة الأهل والأجداد ومعظم مكتسبات الثقافة الجمعية التي تكرست عبر سنوات طويلة من التواصل؟ وهل استطاع هذا التراث الصمود أمام «ناطحات السحاب» وغزو «الوسائط الذكية» أم أصبح مقتصراً على المناسبات القليلة، وبين أوساط الكبار والمعمرين؟

أسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذا التحقيق الذي تباينت فيه الآراء وتنوعت حول قيمة الأمثال الشعبية في حياة الإماراتيين، ومدى مقاومتها للاندثار والتلاشي في ظل الثورة المعلوماتية وتطور وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت، حسب رأي الكثيرين، في تقديم «بدائل حداثية»، في الوقت الذي تكابد فئة مقابلة من أجل الحفاظ على مكتسبات هذا الإرث الثقافي العريق وتوظيف السبل الكفيلة بالدفاع عنه.

إرث ثقافي

يؤكد فرحان حريزي أنه يستعمل الأمثال في سياق حديثه مع الأهل والأصدقاء، وفي معظم النقاشات التي تدور بين الناس في المجالس، ويرى أن تقاليد استعمالها التي توارثتها مختلف الأجيال لاتزال قائمة ومتداولة بين مختلف الشرائح العمرية، وصولاً إلى جيل الشباب في الإمارات، لكن ليس بالالتزام نفسه الذي يميز جيل الآباء والأمهات، ويقول «نستعمل الأمثال الشعبية لأنها تندرج ضمن تقاليد العائلة الإماراتية وعاداتها اليومية، وتنضوي بذلك ضمن إرث ثقافي يحافظ عليه الكثير من الإماراتيين ويتوارثونه من جيل إلى آخر، ورغم التنوع الاجتماعي والتطور الحضاري الكبير الذي تشهده الدولة اليوم، فإن هذه القيمة الثقافية والمجتمعية ظلت قائمة بذاتها، مثلها مثل أي مظهر آخر من مظاهر الهوية الوطنية التي يحافظ عليها الإماراتيون».

ويتابع: «صحيح أن الثورة التكنولوجية جعلت العديد من الناس يميلون نحو وسائط أخرى تفرض استعمالات مغايرة للغة، مثل الرسائل النصية أو الوسوم على (تويتر)، إلى جانب الثقافات الأخرى التي أوجدت نوعاً من الثقافة اللغوية الجديدة التي تواكب المجتمع الإماراتي، الأمر الذي فرض على بعض الإماراتيين الابتعاد عن الاستعمالات المحلية للأمثال الشعبية، لتسهيل قنوات التواصل مع الوافدين وإيصال أفكارهم، ما يجعلنا أحياناً نتحاشى هذه الاختصارات اللغوية للوصول إلى الآخر، ومنعاً للخلط الذي قد يحصل من استعمالها».

نحو الاندثار

على العكس من ذلك يرى عبدالواحد بن حافظ، أن الأمثال الشعبية لم تتمكن من المحافظة على وجودها في ظل الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم بشكل عام، حيث يقول: «يجب الاعتراف بأن استعمالاتنا المحلية للأمثال تشهد اليوم تراجعاً واضحاً، وذلك للقيود التي تفرضها الثقافة الشعبية بصفة عامة عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع الثقافات (الوافدة) التي تعيش في المجتمع الإماراتي، ما جعل استعمالها مرتبطاً بنطاق العائلة الضيق الذي يسهل فيه تلقيها واستيعابها بشكل واضح»، مؤكداً على هذا «التراجع بشكل أكبر داخل فئة الشباب».

ويضيف: «هنالك تراجع ملحوظ في استعمال الأمثال الشعبية بشكل عام بين فئة الشباب الذي يفتقد لهذه الخلفية الثقافية، على عكس جيل الكبار، وأتوقع لها الاندثار خلال السنوات المقبلة، لأن الجيل الجديد لا يبدي أي اهتمام بمحتوياتها ولا بالقيمة الثقافية التي تشكلها، حيث يعتبرها صعبة ومعقدة ومليئة بالرموز التي يصعب تفكيكها، في الوقت الذي نرى الشباب ينصرفون نحو وسائل اتصال وتواصل جديدة، وجدوها أكثر سهولة وسرعة، ليظل السؤال الملح متعلقاً بكيفية اجتذاب هذا الجيل الجديد وتشجيعه على الإقبال على هذه الثقافة المحلية التي تجذر الهوية الوطنية الإماراتية وتنقذها من النسيان».

غياب الوعي

بدوره، يشير يعقوب إبراهيم عيسى، إلى أن «معظم الناس اليوم باتوا بعيدين عن لغة الأمثال الشعبية، ويرى أن هذه الأمثال أصبحت مقتصرة على الآباء والأجداد الذين لا تنفصل مفردات حياتهم وتاريخهم عن مكونات البيئة المحلية التي أتاحت ظهور ونشأة هذه الأمثال وتداولها في الثقافة الشعبية الإماراتية، باعتبارها لصيقة بهم، خلافاً لأشكال الحياة العصرية التي فرضت اليوم بيئة جديدة ومفاهيم مغايرة، قد تبتعد بعض الشيء عن مكنون هذه الثقافة القديمة». ويتابع حديثه مدافعاً عن هذا التقليد الإماراتي: قائلاً: «أرى أن التقصير في استعمال هذا الموروث الثقافي المتنوع والثري ينسحب على معظم أفراد المجتمع، على اختلاف مستوياته الثقافية والعمرية، حيث يرجع هذا التقصير إلى غياب الوعي المشترك بقيمتها الحضارية، وعدم اهتمام الكثيرين بإحياء عناصر هذه الثقافة وتكريسها كشكل اجتماعي وإنساني يضاهي مختلف الأشكال الثقافية الشعبية الأخرى التي يعتز بها الإماراتيون ويحافظون على مكتسباتها، رغم كل موجات الحداثة والتطور التي يعيشها المجتمع، ونتمنى أن نرى في المستقبل سياسات ثقافية وبرامج إعلامية جادة، تصب في اتجاه الحفاظ على هذه المكونات التي تجسد الهوية الوطنية، وتهتم بنشر تداولها كقيمة معرفية مرتبطة بذاكرة الإماراتيين وتاريخهم».

«حاملين الراية»

بلغة لا تخلو من الحماسة تتحدث منى الهرمودي عن ارتباطها الوثيق بمكونات الأمثال الشعبية، وتعتبرها جزءاً لا يتجزأ من العادات والتقاليد اللغوية المتداولة بين الإماراتيين، بشكل قد يكون لافتاً، إذ ينسحب على الكبار والصغار دون فرق، وتتحدث عن تجربتها الطريفة مع الأمثال الشعبية قائلة: «يحصل أن أستنجد بمثل شعبي لأتحدث عن بعض الصفات الغريبة التي أراها، أو أتحدث عن بعض التصرفات الغريبة التي تصدر من بعض الشخصيات التي أقابلها، مستعينة بمكنونات الأمثال الشعبية الطريفة، التي لا تخلو من النقد، وتشفي غليلي، خصوصاً عندما لا يتم استيعابها من الطرف المقابل، فتكتمل الغاية من استعمال لغة مكثفة وبليغة».

ولدى سؤال «الإمارات اليوم» عن واقع الأمثال ومستقبلها، تتابع الهرمودي قائلة: «الإماراتيون من أكثر المجتمعات الخليجية اتصالاً بعاداتها وتقاليدها وهويتها الوطنية، ولا أجد اليوم مبرراً للاستغناء عن هذا الإرث الشعبي الذي يختزل المعنى في (كلام موزون)، والجميع بات اليوم يتداول هذا الإرث اللغوي، خصوصاً في أوساط الشباب (الذكي والفضولي) الذي يهتم بمعرفة تفاصيل الكلام الذي يسمعه أحياناً من الوالدين، على اعتباره يقدم لشكل من أشكال النصح والإرشاد الذي يمكن الاقتداء به في المستقبل أو استعماله أحياناً لتذكيرهم بمقتضياته».

بدائل تكنولوجية

من جهتها، تعتز شيخة الفلاسي بالأمثال الشعبية، وتعتبرها بطاقة هوية الإماراتيين، ووسيلة تواصلهم الثقافية التي تجمعهم وتوحد بينهم، وتتحدث عن تجليات استعمالها قائلة: «يختلف ارتباطنا بالأمثال الشعبية حسب البيئة والفئة العمرية المسؤولة عن النشأة، فالطفل الذي يتربى في عائلة يرتبط فيها الوالدان بهذه القيمة ويتداولانها داخل البيت مع الجد والجدة، في حال وجودهما، يستوعب عناصر هذه الثقافة الشعبية ويستعملها»، وتتابع: «تشربت حديث الأمثال من أمي وخالتي، لكنني أحاول التقليل من استعمالها في البيئة المهنية، نظراً لتنوع الثقافات واختلافها، ما جعلني أنحاز إلى استعمال أسهلها أو اللجوء إلى بعض الاستعارات من الأمثال الشعبية العربية لإيصال فكرة ما».

وعن مـــــدى اهتمام الأوســـاط الشبابية بمغزى الأمثال الشعبية، تضيف: «على عكـــــس ما يعتقد البعض فإن حــــديث الأمثال انتقل اليوم من (المجالس) إلى الأجهزة الذكية، فالتكنولوجيا الحديثة والثورة المعلوماتية التي نشهدها اليوم زادت من نسبة اهتمام الناس بمقتضيات الهوية الوطنية وبمختلف تجلياتها، وبتنا اليوم نرى العديد من الصفحات الإلكترونية الإماراتية المتخصصة التي تهتم بالأمثال الشعبية، وتفتح المجال أمام مختلف المشاركات التي تسهم بشــــكل واضح في إثراء محتوياتها من خلال النقاشــــات والإضاءات التي يحملها قراء هذه الصفحـــات ومتابعوها، سـواء كانوا من المهتمين أو من الباحثين، ما يسهم في زيادة عدد المقبلين على محتوياتها والمنتمين في الأغلب إلى فئة الشباب الإماراتي الذي تمكن من توظيـــف التكنولوجيـــا لخـــدمــة التراث الشعبي ونشــــره بطــــرق تحقق أفضل النتائج وأسرعها».

 

بحث عن الوسائط

تبقى آراء معظم الذين استوقفتهم «الإمارات اليوم» لتسألهم عن حضور الأمثال الشعبية في الحياة اليومية متأرجحة بين الحنين والنسيان، ويبقى معها هذا الإرث الثقافي الضارب في الحنين، الذي تكفّل في وقت من الأوقات بالتوثيق لتاريخ الإمارات وذاكرة الإماراتيين «باحثاً عن الوسائط»، وعلى حد تعبير الباحث عبدالله بن خدوم «تبقى المسؤولية في النهاية ملقاة على عاتق المسؤولين والمهتمين بالتراث من جمعيات ومختصين وباحثين من أجل بث الوعي الثقافي الشعبي».

مسؤولية جماعية

يؤكد الباحث والإعلامي الإماراتي، جمعة بن ثالث، أن جيل الشباب غير ملم على الإطلاق بالأمثال الشعبية، ولا يعرف الكثير عن معانيها وكيفية استخدامها في الأحاديث والحياة اليومية، وذلك بسبب عدم مخالطة كبار السن ومحاولة التعرف إلى هذه الأمثال والمناسبات التي أنتجتها، قائلاً إنه لا يضع اللوم في هذا الإطار على جيل الشباب فحسب، مضيفاً: «يجب أن نكون واقعيين، وألا نحاول إلقاء اللوم على الشباب لابتعاده عن تداول الأمثال في أحاديثه اليومية، فهذه مسؤولية الجميع، والكل مطالب بالحفاظ على هذا المخزون الثقافي والذاكرة الجمعية، وهذا ما نحاول إبرازه من خلال عدد من البرامج الثقافية مثل برنامج (خطار) الذي ارتأينا أن نركز فيه على المخزون المهم للمصطلحات القديمة في محاولة لإبراز بعض أوجه التراث والعادات الإماراتية العريقة».

مسؤولية المختصين

يعترف الباحث التراثي الإماراتي، عبدالله بن خدوم، بأن الأمثال الشعبية لاتزال تسجل حضورها، لكن ليس بالزخم الذي يرضي طموحات المهتمين بالتراث الإماراتي، لأن وسائل الاتصال الحديثة ارتقت جداً، على حد تعبيره، في الوقت الذي كانت فيه الأمثال الشعبية قديماً مرتبطة بثقافة الشعب عموماً، بداية من الأسرة إلى الحي والمدينة والمنطقة عموماً، ويضيف: «الأمثال الشعبية موجودة الآن، لكن بصفة أقل، ونحن كمختصين نحاول جهدنا لإحياء المفردة والثقافة الشعبية عموماً في المجتمع، سواء من خلال البرامج الثقافية أو الأبحاث».

ويتابع حديثه قائلاً: «الأمثال متداولة لدى كل أفراد المجتمع الإماراتي، ويمكن توزيع استعمالاتها على ثلاث شرائح اجتماعية، وهي البدو والحضر وأهالي وسكان المناطق الجبلية، التي يتفاوت فيها حضور الأمثال الشعبية ومفاهيمها بين كل شريحة، حيث تختلف اهتمامات أهالي البيئة الزراعية عن سكان المدن الساحلية، لكنها عموماً موجودة، حيث تحافظ الأسر الإماراتية المرتبطة ببعض القبائل الكبيرة على تداول هذه الثقافة وتوارثها بين مختلف الأجيال».

 

 

تويتر