أبوظبي من قصر الحصن إلى المباني الأيقونية (3-3)

«روح المكان» في دائرة الجـــدل

صورة

يشكل التاريخ العمراني الحداثي لمدينة أبوظبي رحلة متكاملة الأركان والأبعاد، اجتماعية وثقافية واقتصادية وعمرانية؛ وبقدر ثراء هذه الرحلة بمكوناتها وتفاصيلها من مشاهد وأحداث ووقائع ومعلومات مهمة ومفصلية في تسجيل وتوثيق تاريخ الإمارة الحديث، فإنها جزء مهم من مكونات تاريخ الدولة، بقدر ما إنها مازالت تحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب والتوثيق والتحليل للحفاظ على ذاكرة المكان من الاندثار، وكذلك استخدام الماضي القريب في رسم ملامح المستقبل؛ بما يمكن معه تفادي الأخطاء؛ وتعلم الدروس.


لأنها جزء مهم من روح المكان، ومكون رئيس من مكونات تراث الدولة، كان بعض مباني أبوظبي موضوعاً للجدل في ظل مخاوف من المساس بها أو بهويتها، بينما توارت مبانٍ أخرى واختفت من المشهد العمراني للمدينة بهدوء دون ضجيج يذكر، لأسباب مختلفة، لعل أهمها الطبيعة المتغيّرة للمدينة نفسها، فهي في حالة حراك وتطور مستمر، بما قد لا يدع وقتاً للمقيمين فيها لملاحظة التغييرات التي تحدث؛ والتوقف أمامها، إضافة إلى الطبيعة المتغيرة، بدرجة أو بأخرى، للتركيبة السكانية، في ظل انتقال البعض للسكن في مناطق خارج المدينة؛ أو بإمارات أخرى، وقدوم آخرين جدد، غالباً لم يعاصروا النشأة العمرانية الحداثية للمدينة، ولم يشاهدوا بعض المباني التي تم هدمها.

المجمع الثقافي
يعد مبنى المجمع الثقافي الذي بني عام 1981 قريباً من قصر الحصن، من أكثر المباني التي أثارت جدلاً، عندما أغلق عام 2009، وتم تسويره، دون أن يتم الكشف بشكل واضح عن المصير الذي ينتظر المبنى، ومع تزايد التكهنات بأن المبنى سيكون مآله الهدم، تزايدت الأصوات الداعية إلى إعادة النظر في هدم المبنى، والعمل على ترميمه والحفاظ عليه، باعتباره جزءاً مهماً من كيان المدنية، المعماري والثقافي والاجتماعي أيضاً، وجزءاً من الذاكرة الجمعية لها.
كان المجمع الثقافي - سنوات طويلة - قِبلة لسكان المدينة من مختلف الأعمار، لمتابعة الأنشطة والفعاليات الثقافية والترفيهية والتعليمية التي كان ينظمها المجمع، وبين أروقته وفي قاعاته التي تتسم بالهدوء، شاهدوا أعلام الفكر والثقافة والفن العرب، مثل نزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وسميح القاسم، ومارسيل خليفة، وصباح فخري، وغيرهم كثيرون. وبشكل عام يمكن القول إن مكانة المجمع الثقافي لم تنبع من قيمته المعمارية بقدر ما تكوّنت في نفوس السكان بفضل وظيفته التي كان يؤديها مركزاً ثقافياً.
«كان وجود المجمع الثقافي فرصة لصنع وسط ثقافي في المدينة، إلى أن تم إغلاقه وتشذر العمل الثقافي التفاعلي. فلا يصنع أي وسط ثقافي إلا الناس، وبدءاً من القاعدة الدنيا»؛ بحسب ما ذكر الشاعر والفنان الإماراتي محمد المزروعي.
ولذلك ظل المجمع الثقافي ومصيره محل جدل وتساؤل في مجالس المثقفين الإماراتيين، وأحياناً في مقالاتهم، أو في موضوعات صحافية نشرت هناك وهناك، بل ووصل إلى وسائل التواصل الاجتماعي بعد تدشين «هاشتاج» خاص به على موقع «تويتر» يتساءل عن مصير المبنى.
هذه القيمة لم تغب عن حكومة أبوظبي؛ إذ أعلنت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في فبراير الماضي، الافتتاح الجزئي لمبنى المجمع الثقافي، خلال مهرجان قصر الحصن 2014، بما منح زوار المهرجان فرصة الاطلاع على أعمال مشروع الصيانة والترميم في المجمع، التي تأتي ضمن مخططات منطقة قصر الحصن كاملة لتكوين تجربة ثقافية شاملة، تجمع بين قصر الحصن المبنى التاريخي الذي أنشئ في مرحلة ما قبل النفط؛ والمجمع الثقافي المبنى الحديث الذي يعنى بالثقافة والتراث وأبوظبي بشكل عام؛ بحسب ما أوضح الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان، رئيس هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، في تصريح طمأن عشاق المبنى، شدّد فيه على حرص «الهيئة» على تعريف الجميع بهذا المشروع، واطلاعهم على سير عملية الترميم والصيانة، خصوصاً أنه لطالما كان أفراد المجتمع جزءاً من إرث المجمع الثقافي، و«أن هناك الكثير من الأشخاص في أبوظبي يمتلكون ذكريات رائعة في المجمع الثقافي، إذ إنهم شاهدوا أول العروض المسرحية والحفلات في هذا المكان، ونحن لا نرغب في إحداث التغييرات فيه، وإنما نسعى إلى استعادة الإحساس بالماضي والتمسك به من خلال إعادة المبنى إلى حالته الأصلية».

هدم وإزالة

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/12/8ae6c6c54a58663f014a7cf3a90807ae3.jpg

كشف تقرير إدارة المراكز الخارجية التابع لبلدية أبوظبي عن هدم وإزالة 200 مبنى بمختلف المناطق في أبوظبي من عام 2010 حتى نهاية العام الماضي، وذلك ضمن حملات البلدية المتواصلة لإزالة المساكن والبنايات القديمة والمهجورة ومشوهات المظهر العام، بعد دراستها والتأكد من عدم صلاحيتها للسكن وإعلام أصحابها، تطبيقاً لرؤية البلدية في ضمان مستوى الحياة الأفضل والبيئة المستدامة لسكان أبوظبي. وأوضح التقرير أن البلدية درست مشروع الإزالة من جميع جوانبه، الصحية والاجتماعية والاقتصادية والجمالية، وبالقياس للأضرار الناتجة عن استمرار وجود المباني والمساكن المهجورة، وجاء قرار إزالتها لتحقيق هدفين أساسيين، يتمثل الأول في تخليص الشوارع من المظهر غير اللائق لهذه المباني والمساكن، والثاني يتجسد باستثمار هذه المساحات الموقوفة من دون أي عائد استثماري، سواء بالنسبة للمدينة أو لأصحاب وملاك المباني.
وبيّن التقرير أن البلدية تمضي قدماً في تنفيذ مشروع إزالة المباني المهجورة، وبوتيرة مدروسة، عن طريق لجنة تتولى متابعة عمليات الهدم والإزالة، وترحيل الأنقاض بالشكل الذي يجنب السكان أي إزعاج، وتلافي تلويث البيئة المحيطة بالساكن، خصوصاً أصحاب البيوت والفلل المجاورة لمواقع الهدم.


السوق القديم
مبنى آخر كان موضع جدل في العاصمة الإماراتية، وهو السوق المركزي القديم، الذي خططه المهندس المعماري المصري عبدالرحمن مخلوف عام 1968، ويقع في منطقة وسط البلد، وضم في البداية 200 من المحال التجارية. ومع الوقت أصبح مركز جذب لسكان المدينة، وملتقى لكثير منهم؛ خصوصاً العمال من جنسيات آسيوية، وحتى بعد بناء مراكز تسوق وظهور متاجر مختلفة في أبوظبي، ظل السوق القديم مقصداً لكثير من العائلات التي تذهب إليه مع اقتراب موعد الإجازات السنوية، لشراء هدايا الأهل قبل السفر؛ إلى أن تقرر هدمه، وتم إنذار أصحاب المحال والباعة لإخلاء المكان، لكن النهاية جاءت في مارس 2005، عندما شب حريق كبير أتى على جزء كبير من محاله، ما سرع من عملية هدم السوق، ليحل محله حالياً برجان يتضمنان مبنى المركز التجاري العالمي، والسوق المركزي الجديد، من تصميم المعماري المعروف نورمان فوستر، بينما توزع باعة السوق القديم بين الجهة المقابلة للسوق في شارع حمدان، وسوق مدينة زايد التجاري والمنطقة المحيطة به.
ورغم ملامح العمارة العربية والإسلامية التي يحملها المبنى الجديد للسوق، ووجود عديد من المراكز التجارية الفخمة في المدينة، تظل للسوق القديم مكانته في عقول ونفوس السكان الذين عاصروه، في ظل غياب بديل يحمل القدر نفسه من الحميمية والبساطة التي كان يتسم بها المكان.

«المطار»
هناك أيضاً مبنى مطار أبوظبي القديم، الذي يقع داخل شركة أبوظبي للإعلام؛ وهو آخر ما تبقى من المطار القديم الذي يعتقد أنه بني في فترة الخمسينات من القرن الماضي، واستمر العمل فيه حتى بداية السبعينات، لينتقل العمل إلى مطار أبوظبي الدولي القديم. وفي عام 2009، أعلنت هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة وشركة أبوظبي للإعلام عن ترميم المبنى، وإجراء توثيق معماري وتحليل أثري للموقع، على أن يتم افتتاح الموقع للرحلات الميدانية التعليمية والثقافية والرحلات السياحية فور الانتهاء من عملية الترميم.
ورغم ذلك، ومع أهمية المبنى التاريخية والمعمارية، خصوصاً أنه يضم «البراجيل» الوحيد المتبقي في أبوظبي، وهو يمثل تطور الأساليب المعمارية التي تعبر عن جانب من التحولات الاجتماعية الحاصلة في أبوظبي، خلال الفترة ما بين خمسينات وسبعينات القرن الماضي، وهو ما دعا مهتمين بالشأن السياحي إلى التساؤل عن كيفية استغلال هذا المعلم التاريخي والثقافي المهم، سياحياً وتعليمياً، مقترحين إمكانية دراسة خيار نقل المبنى بالكامل إلى مواقع أخرى، حتى تتاح لأكبر عدد ممكن من الزوار مشاهدته.

نافورة
كما أن هناك نافورة البركان، التي كانت تقع على كورنيش أبوظبي قبل الإنشاءات الضخمة التي تم تنفيذها فيه، والتي كانت من المعالم البارزة للمدينة، وتميزت بتصميمها الفريد، ونظام الإضاءة المميز لها في المساء، والذي يجعلها تبدو مثل البركان.
واعتبر البعض أنه كان يمكن نقل النافورة وإعادة تركيبها في موقع مناسب على الكورنيش، لكن التغييرات والإنجازات الكبيرة التي شهدتها المنطقة لم تترك مجالاً واسع للجدل حول النافورة التي بدأت تتوارى عن ذاكرة كثيرين.

مبادرة
أطلقت هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة، في أغسطس 2011، (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في ذلك الوقت)، مبادرة هي الأولى من نوعها، لحماية تراث المباني الحديثة في أبوظبي. وتهدف المبادرة إلى فهم وتقدير التراث المعماري لإمارة أبوظبي في مرحلة ما بعد النفط، وتقييم أهميته، ووضع استراتيجيات فعالة لحمايته للأجيال المقبلة. ومن الأمثلة البارزة لهذه المباني: قصر المنهل، وجسر المقطع، ومجمع أدنوك على كورنيش أبوظبي، ونادي ضباط القوات المسلحة، وفنادق الهيلتون والإنتركونتننتال والميريديان، ومبنى المحكمة، ومدينة زايد الرياضية، وغيرها.
كما توجد مبانٍ أقل رمزية؛ منها المباني القديمة والمنخفضة، كالمساكن الشعبية والاستراحات والحمامات المنتشرة على طول الطريق من أبوظبي إلى العين وليوا، والتي تقف شاهدة على النهضة غير المسبوقة التي شهدتها دولة الإمارات على مدى نصف القرن الماضي. كما أن العديد من هذه المباني لايزال بحاجة إلى التعريف به وحمايته والاحتفاء به؛ كونه يسرد قصة أبوظبي خلال العقود الماضية، كما أنه يضيف ميزة بصرية إضافية إلى مواقعها.
وترى الهيئة أنه على عكس المباني التاريخية والأثرية، تواجه المباني التراثية الحديثة تهديداً إضافياً، يتمثل في المطالبة المستمرة بالتجديد لتتوافق مع أحدث وأذكى مفاهيم التصميم. ويكون الخيار الأول في العادة لتحديث هذه المباني هدمها تماماً والبدء ببنائها من نقطة الصفر، بدلاً من النظر في خيارات أخرى لترميم الهيكل الأصلي وتجديده وتكييفه، في ضوء قيمتها ضمن التراث العمراني لمدينة أبوظبي. وفي الوقت الذي تحظى فيه المباني التقليدية بالعين والحصون في ليوا بأهمية تاريخية، فإن المباني التي شيّدت خلال الطفرة النفطية بأبوظبي خلال الستينات تقف شاهدة على تطور الإمارة ونهضتها، كما أن من الصعب تقدير أهميتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لماضي الإمارات القريب، حيث اعتاد الناس رؤيتها واستخدامها في حياتهم اليومية.

معايير الاستدامة

وضع مجلس أبوظبي للتخطيط العمراني آلية عمل واضحة تعتمد على مجموعة من المبادئ العامة، والتي تم تطويرها بناءً على محاور برنامج «استدامة» الأربعة: البيئة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، لضمان اتباع نهج متكامل وفعال للتنمية المستدامة.
وتعد هذه المبادئ مرجعاً رئيساً خلال مراحل تطوير جميع الخطط والسياسات والمعايير والإرشادات التي يصدرها المجلس. وكانت انطلاقة برنامج استدامة في عام 2008، البرنامج الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وهو قائم على مفهوم التعايش مع ثقافة وبيئة أبوظبي، مع الحفاظ والعناية بأسلوب الحياة في الإمارة، حتى تستفيد الأجيال المقبلة من القرارات الحكيمة التي يتم اتخاذها. وتتعدى المبادئ التي قام عليها برنامج استدامة كونه «صديقاً للبيئة» أو حتى تبنّي أسلوب المباني الخضراء، فأحد أهداف المجلس هو نقل تراث وحضارة الدولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة، وبناء مجمعات حضرية تمكن المجتمع من الازدهار «فنحن في حاجة إلى نمو اقتصادي مستدام، وأن يكون هذا النمو قائماً على قطاعات مستمرة على درب الازدهار والتطور، وأخيراً وليس آخراً أن تنعم الأجيال المقبلة بحياة طيبة ومريحة. إن البيئة من أهم أولوياتنا، فإذا قمنا على حاميتها وتطويرها ستبقى نابضة بالحياة، وتدعمنا في جميع نواحي حياتنا، كالزراعة والثروة الحيوانية، وأخيراً نحن البشر، وبناءً عليه، فإن (استدامة) ليس فقط نظاماً لتقييم البناء، إنما هو برنامج مستدام ومستمر في التطور، وواضح المعالم، وقائم على رؤية بعيدة المدى، وتدعمه أربع محاور رئيسة هي: الاقتصاد والبيئة المجتمع والثقافة».

تويتر