رواية تسخر من المتاجرين بالدين.. ولا تنشغل بالــفنيات

«مولانا» إبراهيم عيســى.. يلعب «بالبيضة والحجر»

بلا رتوش، أو أقنعة فنية كثيفة، يضرب الكاتب إبراهيم عيسى، في روايته الجديدة «مولانا» في أكثر من وجهة، مستعيناً بنموذج «داعية نجم» يلعب «بالبيضة والحجر»، صاحب لسان يقطر عسلاً، وعقل لديه لكل شيء مخرج فقهي، تخلى عن العمامة، وارتدى أفخر الثياب العصرية، ليكون سيداً في الفضائيات، يجتذب المشاهدين ويجعلهم «مسمّرين» الى ذلك الصندوق السحري الذي يدعى التلفزيون.

من خلال تلك الشخصية، يشرّح إبراهيم عيسى بجرأة شديدة ظواهر بالجملة في المجتمع، يدخل الى حقول ألغام، و«أعشاش دبابير» قد لا يرضى عنها البعض، وينتقد بواقعية مفرطة ما حدث، ومازال يحدث، لا يجمّل الكلمات، ولا يضع على حواراته زينة تخفف الوقْع، كي يؤثر السلامة، ولا يصطدم بركن شديد صار له مريدون وجماهير غفيرة، إذ يصرّ صاحب «ألوان يناير» على الضغط على ما يراها ظواهر مرضية أسهمت في الحال المتردية التي وصل اليها المجتمع المصري. ولا يعني ذلك أن مؤلف «مولانا» يلجأ الى الأسلوب الفج، بل على العكس، يعمد الى سهام السخرية وخفة الدم، حتى في أحلك اللحظات، وأشدها عتمة، لا يتخلى إبراهيم عيسى، كما المعهود عنه، عن اللجوء الى النكتة وإخراج اللسان لذلك الواقع المر.

شبكة مصالح

مواقف

ولد الكاتب إبراهيم عيسى عام ‬1965، تخرج في كلية الإعلام، والتحق بالعمل الصحافي في مرحلة مبكرة من حياته، ورأس العديد من الجرائد، ودخل في صراع مع السلطة، وعرفت عنه مواقفه الجريئة. وصدرت بحقه أحكام عدة نتيجة لذلك، وضيق الخناق على صحف كان يرأس تحريرها. ويترأس حالياً تحرير جريدة «التحرير» التي ظهرت بعد ثورة ‬25 يناير في مصر.

حاز إبراهيم عيسى جائزة جبران تويني اللبنانية، وعمل في برامج تلفزيونية كثيرة، ويقدم حالياً برنامج «هنا القاهرة» على إحدى الفضائيات المصرية. ومن نتاج عيسى روايات «مقتل الرجل الكبير»، و«دم على نهد»، و«مريم التجلي الأخير»، وله أيضاً كتب «لدي أقوال أخرى»، و«المقالات الغزاوية»، و«الإسلام الديمقراطي»، و«أفكار مهددة بالقتل»، و«ألوان يناير» وغيرها.

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2013/03/0457896321.jpg

تكشف شخصية «مولانا» عن شبكة معقدة من المصالح، والمتاجرة بالدين، وتوظيف السامي في أغراض لا سامية صغيرة، إذ يرتبط مفتي الفضائيات «المودرن» (حاتم) بعلاقات متشابكة: تارة بأمن الدولة، وأخرى برجال أعمال وأصحاب «بزنس»، وثالثة بأناس طيبين، يودون العيش بين هؤلاء وهؤلاء، بسلام، لكنهم لا يجدون الى ذلك سبيلاً.

تغوص «مولانا» الصادرة عن دار بلومزبري ــ مؤسسة قطر للنشر، في أعماق نموذج «الداعية الجديد»، ولا تكتفي بتصوير حاله من الخارج، وإظهار قدراته الجدلية، بل تحاول تفكـيك شخـصيته، وإبراز جوانبها الإنسانية المختلفة، قوتها وضعفها، وتفصيل رحلة صعودها، وهو ما منح تلك الشخصية ثراء وتركيباً، وجعلها قادرة على التمرد على حيزها الورقي، بحيث تتماس مع شخصيات كثيرة تدب على أرض الواقع، وتملأ الشاشات الفضائية بفتاوى واجتهادات.

يجد قارئ الرواية ذاته ناقماً على «مولانا» أحياناً، ومتعاطفاً معه أخرى، يستمع لشكاياته وهمساته الذاتية وهو يتذكر ولده الوحيد المريض الفاقد الذاكرة، ويصاحبه في استوديو على الهواء، مطلقاً أجوبته الدينية المثيرة، وألعابه اللفظية التي تجعل المشاهدين مرتبـطين بالشاشة، ويرافق القارئ كذلك الداعية المفـترض (حـاتم) في جلسات مريبة مع رجال أعمال، وينتقل معه الى دهاليز سياسية وأمنـية، ومـؤامرة كبرى تحـاك خـيوطها على مهل، بينما لا يعـلم عنها الداعية الذكي شيئاً.

تشويق

يلجأ إبراهيم عيسى في «مولانا»، التي تقع في ‬554 صفحة، الى التشويق، فثمة أحداث عدة لا تسير على وتيرة واحدة، ولا تتكشف ملامحها بصورة سريعة، وأيضاً هناك أمور ظاهرها غير باطنها، إذ تحمل النهاية مفاجأة، قد تسرّ قارئاً ما، وقد تثير آخر وربما يعتبرها مبالغة تناسب فيلماً سينمائياً، أو دراما تلفزيونية، بينما الحال غير في الشأن الروائي.

لا تغيب خيوط الواقع عن شخصيات «مولانا»، إذ توجد أسباب كثيرة تدفع متلقي الرواية الى التوقف كثيراً أمام تلك الشخصيات، ليجد ذاته، بشكل لا إرادي، يبحث عن شبيه الشخصيات في الواقع، فالظلال في الرواية تحيل الى نظائر لها تتصدر المشهد، بعضها ظاهر بشكل ما، وبعضها خفي، فأمثال الداعية حاتم نماذج عدة، لكن هناك شخصاً ما بعينه، ربما يكون الكاتب إبراهيم عيسى قد تأثر بملامحه وجزء من سيرته وطلته في لحظة بعينها، ولا يتوقف الأمر عند مجرد تلك الشخصية، فهناك آخرون (ساسة، ورجال أعمال، ومشايخ)، وأيضاً أخريات (فنانات معتزلات) يحيلون بالفعل الى صور حقيقية، ويتماسون مع العمل، ربما لأن الواقع تخطى الخيال، وسبقه في المرحلة الأخيرة في مصر.

متابع إبراهيم عيسى، في مقالاته الصحافية، وبرامجه التلفزيونية، تحديداً، ربما يجد نفسه في أزمة ما خلال قراءته لرواية «مولانا»، إذ سيستشعر حضور صوت الكاتب المصري يرّن بين سطور العمل، مهما جاهد لتحييده، أو حاول الفصل بين عيسى وشخصيات عمله، لاسيما حينما يجد كثيرا من لوازم إبراهيم عيسى، التي تتكرر في مقالاته وأحاديثه التلفزيونية، وكذلك تحضر في الرواية بشكل جلي، ربما لأن عيسى يكتب كما يتحدث، ويسرد ويسخر وينتقد عبر الصفحة أو الشاشة، لا فارق.

قناعات

تبرز قناعات إبراهيم عيسى الشخصية في «مولانا»، التي وصلت الى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، بشكل جلي، إذ لم يحاول تعميتها عن القارئ، حتى ولو ضحى بما قد يراه البعض ضرورياً في العمل الفني، إذ تظهر رؤيته للعديد من الأزمات السياسية والمجتمعية في مصر، وكذلك اجتهاداته هو الشخصية لأمور تثير عليه البعض، ممن لا يرونه أهلاً للحديث في تلك الأمور، لاسيما التاريخ الإسلامي واجتهادات المتكلمين، وكذلك الانحياز الى تيار بعينه.

ومن أجواء الرواية «أنا يا حسن أو بطرس، كي لا تغضب مني، بعدما عمدتك زوجتنا المصونة، لم أعرف في حياتي أقباطاً، في الحي تقريباً لم أصادف جاراً ولم أتعامل ولو بالصدفة مع صيدلي قبطي في أجزخانة مثلاً، وطبعا أنا أزهري فليس هناك مسيحيون في حياتي الدراسية، وحتى تخرجت، ثم كنت في وزارة الأوقاف وأنت تعرف، ثم عالم الفضائيات والتلفزيونات ممكن أعبر على واحد أو اثنين، زملاء أو فنيين، لكن لا زملاء، ولا أصدقاء ولا حتى عِشرة وعيش وملح، ولعلمك كل معرفتي بالمسيحيين من خلال معرفتي بالمسيحية في الكتب، أكتشف الآن أن هذا تقصير مني أو صدفة غريبة استمرت خمساً وأربعين سنة، لكن طول الوقت أقلق لما أسمع هذا الكلام الذي يحكي به واحد مسلم عن صداقاته المسيحية أو شخص مسيحي عن أصحابه المسلمين، بينما تؤلف لك أميمة هذه الحكايات الآن وتستدعيها من منطقة منسية في مركز الذكريات في مخها عايزة تثبت أنها كويسة أو ليست متعصبة، أو أنها طبيعية وهذا ليس طبيعياً أن يكون الإنسان لمجرد أنه مسلم مطالباً بإثبات أنه ليس متعصباً ضد المسيحيين، أو لأنه مسيحي مفروض عليه يحكي عن أصدقائه المسلمين، ليؤكد أنه ليس متعصباً بل سمح. كلنا دفاعيون هنا، ندافع عن تهمة لم يوجهها أحد لنا بشكل محدد، لكن يبدو أنها موسومة فوق جلودنا الآن، أو أنها بطحة نتحسسها جميعاً».

تويتر