رواية اللبنانية جنى فواز الحسن

«أنا هي والأخريات».. وسلسلة نساء تعيسات

بطلة توغل في الهروب الى أبعد نقطة في داخلها، بحثاً عن حياة بديلة، وسلسلة ممتدة من النساء التعيسات، لكل واحـدة منـهن حكاية ذات صـلة وشجون.. تتـلاقى جميـعها في عـوالم رواية «أنا، هـي والأخـريات» للكـاتبة اللبنانية الشـابة جـنى فواز الحسن، الـتي تنـافس على الجــائزة العالميـة للــرواية العـربية (البـوكر).

تستولي «حواء» وهمومها على الرواية، تهيمن على عنوانها وغلافها وبوحها، تستعيض عن قهر الخارج وضيقه، بمسـاحات داخليـة رحبة متخيلة، تستدعيها في معظم الأحايين، لاسيما حينما يعتقد الآخر (زوجاً أو غيره) أنه ملكها، وضيَق الخناق على كل جزء فيها، مسيطراً على جسد أنثوي، بينما تكون روح ذلك الجسد في فضاءات بعيدة، تعيد ترتيب العالم المبعثر، وتستمطر سماء فرح بعيدة، لا تظللها برجل يلتصق بها، بعدما يوسعها ضرباً وقهراً، وينعتها بوصف «عاهرة».

انفصال

في «أنا هي والأخريات» الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت، يحتاج القارئ الى أكثر من ‬30 صفـحة لكي يصادف حوارا أول، فثمة انفصال شبه تام بين كثير من شخوص العمل، خصـوصاً تلك البيئة الأولى التي نشأت فيها «سيدة» الرواية (سحر)، فالأب في واد والأم في ثـان، بينما سحر تحاول لملمة ذاتها، ولا تفلح في ذلك، ولذا يكون الحـوار الأول قصـيراً وخاطفاً، والمفـارقة أن طرفه الآخر كان من اعتبرته البطلة فتى الأحلام، والمخلص من العدمية التي تعيش بين جنباتها، من سينتشلها من «الثلاجة التي تحيا فيها»، هذا ما ظنته حينـما التقته، لكن الرواية حبلى بمسـارات مخـتلفة.

تستحيل «أنا هي والأخريات» التي تقع في ‬200 صفحة، تستحيل إلى سـيرة تحصي أنفـاس بطلتها ومشـاعرها، يومـيات طفولتها، وأحلام مراهقتها واستيهاماتها، قوتها الأنثوية وضعفها، رغبـاتها ونظـراتها للآخر، أياً كـان ذلك الآخر أباً أوزوجاً أو عشيقاً، فالـرواية تحـاول أن تحـصر كل تلك الحـالات، على الأقل عبر بطلتها التي لم تسع للتحرر، إلا بمحاولات هروب داخلية، وفي النهاية هروب كبير بعد انتكاسة نفسية، كانت بمثابة القشـة التي قصــمت ظهر سحر.

تقول سحر في إحدى تداعياتها في الرواية: «عجزت عن إقناع نفسي أننا عائلة سعـيدة فعلاً، وأدركت في قـرارة نفسي أن الفـرح لم يلمس عتبة درانا يوماً. وعندما بدأت دراسة الهندسة، كنت أمضي ساعات طويلة وأنا أرسـم ديكوراً مخـتلفاً لمنزلنا، فأملأ المكان بالألوان، وأصمـم مدفأة حطب وأبحث عن الموقع الملائم لها. لم تكن المدفأة تقتصر فقط على احتيـاج الأسرة إلى الدفء، والحمـاية من الحماية من برودة الـشتاء القارصة، وإنما كان لهـا أهمية أكبر بكثير، وهي الدفء العائلي. فالتجـمع والالتفـاف أمامها للاحتماء من زمهرير الليالي الباردة كان سيسـاعد على تكوين أجواء حمـيمة، باتت الحـاجة لها ضـرورة في ظل برودة علاقات عائلتي الخاوية. لكن كل ذلك لم يجد نفعا، فقد بقينا على ذاك الحد الفاصل بين العدم والحياة. وكنت مدركة أن شيئاً ما يجب أن يسـعفني من تلك المرارة ويجعلني أشعر أني أنتمي إلى ذاتي، أو حتى إلى الآخر. كنت بحاجة إلى أن أعرف أني لست وهمـاً، وأني موجـودة في مكان ما غـير الأفكار. وكان ذاك ما دفعني للتعلق بسامي في بداية علاقتي به، فاهتمامه المفرط بجميع تفاصيل وجودي كان لا يضاهى».

صورة «الآخر»

تبدو صورة «الآخر، الرجل» في الرواية ملتبسة، يتأرجح بين القوة والضعف، صاحب انتصارات لا تتحقق إلا بين يدي المرأة، ابنة كانت أو زوجة أو حتى عشيقة، يضرب أرض رغباته مادياً ومعنوياً، ولا ضير في أن يذرف دمعتين، أو يسهر على المرأة بعدما تقع، ويستعـصي علاجـها، فحينـها فقط يستشعر الرجل الندم.

بتفصيل أكبر، تنعكس تجليات صورة الرجل في «أنا هي والأخريات» عبر ثلاثة نماذج (الأب، والـزوج، والعشـيق) فالأول يجـدف عكس التيار، ويصر على الحياة بحلم قديم، وعباءة شيوعية لم يعد لها وجود، يقضي مع كتبه أكثر مما يقضي مع بنيه، ولا توجد مساحة للحوار بينه وبينهم، ولا حتى مع زوجته التي كانت جزءا من مأساة بطلة الرواية التي حاولت الفرار من أن يكون مصيرها مشـابهاً لمصير أمها، فالأب يناطح صخرة الواقع، ويرفض التماشي مع السائد، ما انعكس سلباً على البطلة، إذ كان الأب بمثابة بوابة العزلة الأولى التي توغلت في أرضها في ما بعد، على امتداد محطات حياتها المختلفة، ولم تتخلص من تبعات قرارات الأب، حتى بعد أن ظنت أنها انفصلت عنه.

النموذج الثاني البارز هو الزوج سامي، رجل سحر الأول، ومنقذها من مـنزلها البارد، لكن إلى حيـاة تستـحيل الى فصل جديد من المأساة، إذ تتكشف شخصيته بعد حين، فيعمد إلى امتلاك زوجته بالضرب والقهر وتعمد إهانة سيرة أبيها، ولم تتغير حاله حتى بعدمـا رزق بطفلين، فهو دائما يقدم العلاقة الحميمة بطقس يحاول به إثبات فحولة متوهمة، إذ يضرب زوجته، وينعتها بأوصاف شائنة «عاهرة»، ويجبرها على العلاقة، وبين هذا وذاك يقدم أسفاً خـجولاً، وفي بعض الأحيان دموعاً، وكأنه بحاجة إلى علاج نفسي، وليس إلى تواصل حميم فحسب. الزوج هو الآخر دفع سحر إلى سبيل لم تكن تتوقع أن تسير فيها يوماً.

ثالثة: «الأثافي» الذكورية في الرواية هو العشيق (ربيع)، من لجأت اليه البـطلة بعد يوميـات القـهر التي غلفت حـياتها، من وجهة نظـرها، إذ كان ربيع بمثـابة محاولة منها لتحقـيق ذاتها، والوصـول إلى شيء ما تختاره هي برغـبتها، تنتقم به من ماض منطو على ذاته (الأب)، ومن حاضر مترع بالإهانات والاغتصابات اليومية تحت مسمى الارتباط بزوج متسلط، لكن ربيع هو الثالث لا يقدم على شيء سوى اللقاءات الخاطفة، والتغزل في مفاتن سحر، والإفضاء اليها، وكذلك الإصغاء اليها.

نماذج

حاولت راوية «أنا هي والأخـريات» إبراز ذلك الآخر (الرجل)، وصنع حـياة له، كي لا تبدو منحـازة لبطلتها وبنات جنسـها، لكنها لم تتعـمق في ذلك، لم يظهر تعاطفها، غالباً، مع ذلك الآخر، مثلما كانت تصنع مثلاً مع النماذج الأنثوية مثلاً، خصوصاً العمة وكذلك الصديقة هـالة، إذ وصـلت مع الأخيرة مثلا الى حالة من التمازج، وليس مجرد التعاطف، تتحدث بلسانها، وتسعى إلى سرد تفاصيل بلا حصر من حياتها، وكأنها مرآة تبرز بعـض ملامح سحر، أو كما يقول المثل: «من شاف بلاوي الناس».

ولا تكتفي الرواية بسحر وأزماتها، بل تثري صفحاتها بتعيسات جديدات (الأم، الجارة أم البنات، العمة، الصديقة)، إذ يراكمن همومهن بجوار البطلة، أو بالأحرى تستدعيها الأخيرة، وكأنها «حمالة القسية» التي تجسد كل هؤلاء النسوة المعذبات، والتي تمتلك كل واحدة منهن نصيبا من القهر والألم، والذي بدا فائضا عن الحاجة في أحايين كثيرة.

رغم أن من تدير السرد في الحكاية تبدو منكفئة على ذاتها، تنظر إلى الداخل أكثر مما تتأمل الخارج، إلا أن الهموم العامة لا تغيب بالمطلق عن الرواية، إذ تحضر مضفورة بهموم البطلة ورفيقاتها صاحبات الخيبات، فثمة مدينة موارة بالتغيرات، تتبدل وتحل بها تيارات متشنجة، تحاول طمس معالم المكان، وإجبار ساكنيه على الرضا بالحال الجديدة.

لغة

أولت الكاتبة جنـى الحسن اللغة عنـاية خاصة في روايتـها الجديدة، وجعلتها في الغالب قادرة على النطق بحال بطلة الحكاية، لتتناسب مع بوحها وشكاياتها الممتدة، وتداعياتها الداخلية، على امتداد محطات حياتها المختلفة، لتجسد في لوحات تصويرية فتاة هشة، تزيدها بيئتها هشاشة وضعفاً، رغم أن تلك اللوحات بدت مكررة أحياناً، وعمدت الى المط، وكأن الساردة تتلذذ بالحكي والفضفضة، والتي لم تقدم جديدا في بعض الصفحات، إذ تحولت إلى عبء يثقل السرد، ويعوقه عن التقدم والحركة والانتقال من حال إلى أخرى، رغم أن ذلك بدا مبررا أحيانا: «حولتني الرغبة بالسيطرة على نفسي بكل تداعياتها إلى إنسانة باطـنية، تماما كأني أعقد ميثـاق شرف مع ذاتي بأن أحفـظ جميع أسرارها في صندوق دفين. وإذا بي حين أحاول الوصول الى كنوزي، أجدها مستترة عني، ليظهر الآخر أمامي كشخصية كرتونية أو دمية أحركها في رأسي، أزيل عنه القـناع لأجده عـارياً أمامي. فأسأل هل الآخر من أرى أم أني أسـكب ذاتي فيه؟ الاسـتغراق في عالمي الـبديل كانت الطريقة التي تعصمني من ارتكـاب الخـطايا فأظل آمنة. ولكـني منذ تعـرفت إلى ربيع، وشعـرت بلذة الخطيئة صرت أغـوص فيها وأنسى ما عـداها. لم يعد الخيال يقيني خطر الواقـع، ولم تعد استيـهاماتي تكفي رغباتي التي صار لها جسد وأقـدام وعيون. فحين كان يحـيط كتفي ببـاطن ذراعيه، كنت أشعر أنه يحتويني إلى الأبد، وأن وجودي اضمحل حتى تلاشى في حضنه الدافئ. الشعور الذي أدمنته نبض حي يجعل الأحلام ممكنة. وكامـرأة صحت من عـالم بارد وجـاف لتجد نفسها في تلك الحـكايا الخيالية، بات العـيش في الواقع الذي أنتمي إليه أكـثر مشقة».

تويتر