رواية الكويتي سعود السنعوسي المرشحة لـ «الـبوكــر» تنبش في «الهويات»

«ساق البامبو».. عربي ــ فلبيني يبحث عن جذوره

صورة

هوزيه، عيسى، الفلبيني، الكويتي، الأرابو، حفيد الطاروف، ابن الخادمة، المسيحي، المسلم.. غابة أسماء وألقاب تاه بين شعابها بطل رواية «ساق البامبو» للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، الذي نجح في رسم شخصية تتمرّد على الورق، حتى كادت أن تخرج من بين صفحات الرواية التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة «البوكر العربية».

تبحر «ساق البامبو» عكس التيار الروائي السائد، ومن أصقاع بعيدة، تأتي بعدد من أبطالها، تحديداً من جنوب شرق آسيا، وجزر الفلبين، ليتصدر مهمشمون المشهد السردي، ويبوح صامتون، على الأقل لمن لم يسمع منهم سوى «نعم سيدي» وصدى الابتسامات الدائمة، ببعض مشاعرهم، فثمة حكاية حب بين فلبينية وكويتي، أثمرت طفلاً، نصف عربي ونصف فلبيني، يحاول مدّ جذوره، لكن يرفضه نصفه الكويتي، ويجبره على الاكتفاء بنصفه الفلبيني، والعيش وسط من تنتمي إليه ملامحه، هناك في بلاد أمه «الخادمة».

يكتب هوزيه، أو عيسى، رواية حياته داحل «ساق البامبو»، ويسرد فصول حكاياتها التي تشرق وتغرب، يستحضر أناساً من المفترض أنهم أصله: عائلة الأم في الفلبيين، وأسرة الأب الراحل في الكويت، وبين العائلتين مسافات من الجغرافيا والثقافات والعادات والثراء والفقر.

بلا تحيز

هدوء

بهدوء، غير مبرر أحياناً، يروي عيسى رحلته الحياتية، وبصفاء غريب يسيطر على ذاته في معظم الأوقات، رغم ما تعرض له من قسوة من أقرب الناس اليه، من عائلتيه، الكويتية والفلبينية، وحتى انفعالات عيسى، وهي قليلة، كانت الى الداخل، عبر حوارات وشكايات الى الذات في الغالب: «لم أكن الوحيد في الفلبين الذي ولد من أب كويتي، فأبناء الفلبينيات من آباء كويتيين خليجيين وعرب وغيرهم كثر. أولئك الذين عملت أمهاتهم خادمات في بيوتكم، أو من عبثت أمهاتهم مع سياح جاؤوا من بلدانكم بحثا عن لذة بثمن بخس لا يقدمها سوى جسد أنهكه الجوع. هناك من يمارس الرذيلة لإشباع معدته! والثمن، في حالات كثيرة، أبناء بلا آباء. تتحول الفتيات هناك الى مناديل ورقية، يتمخط بها الرجال الغرباء.. يرمونها أرضا.. يرحلون.. ثم تنبت في تلك المناديل كائنات مجهولة الآباء. نعرف بعضهم بالشكل أحيانا، والبعض الآخر لا يجد حرجا في الاعتراف بذلك. ولكنني الوحيد الذي كان يملك ما يميزه عن أولئك مجهولي الآباء.. وعداً كان قد قطعه والدي لوالدتي بأن يعيدني الى حيث يجب أن يكون، إلى الوطن الذي أنجبه وينتمي اليه، لأنتمي اليه أنا أيضا، أعيش كما يعيش كل من يحمل جنسيته، ولأنعم برغد العيش، وأحيا بسلام طيلة العمر».

تبدو الهويتان، الفلبينية والكويتية، في سباق داخل الرواية، إذ لم يهمل الكاتب سعود السنعوسي واحدة على حساب الأخرى، ولم يبد عليه تحيزاً ما، فثمة رموز من البلدين، ثوريون ومبدعون.. مفتتح للرواية بكلمة للمبدع الكويتي اسماعيل فهد، واستهلالات لأبوابها المتعددة بمقولات للبطل الفلبيني خوسيه ريزال، يستدعي السارد صوراً من البلدين، وصفحات من تاريخهما القديم والحديث، كل ذلك مضفور داخل «ساق البامبو» بشكل فني، إذ استطاع سعود السنعوسي، بحرفية، أن يمزج ذلك وغيره في روايته، ليثبت أن السرد ليس مجرد فضفضات مشوّقة، وحكايات تترى، وراء بعضها بعضاً، فالعمل الروائي تحول إلى مساحة من الإبداع المتعوب عليه، إن جاز التعبير، فبين غلافي «ساق البامبو» عوالم وشخصيات ومعرفة جديدة تضاف الى قارئ الرواية، أساطير من بلاد شبه مجهولة، على الأقل للبعض، تنبئ عن نفسها في سياق سردي خاص.

آثر الكاتب الكويتي الابتعاد عن النماذج المعلبة، والأنماط المتعارف عليها، حينما يتعلق الأمر بالآخر، فقارئ «ساق البامبو» يعايش نماذج حية من لحم ودم، يراها كما لم يره من قبل ربما، يستمع الى أناتها وأحلامها المجهضة، بسبب رفض البعض الاعتراف بآدميتها، ولا يرى فيها سوى كائنات باسمة، صالحة لقضاء وطر ما.

أمكنة

جالت رواية «ساق البامبو» الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في ‬396 صفحة، في فضاءات عدة، عكست أكثر من حيز، تنقلت مع عيسى/ هوزيه بين أكثر من جزيرة في الفلبين، عكست تلك الأمكنة، وحرصت على أن تنقلها لتبرز بيئة ربما حاولت أن تصالح ذلك الشاب الذي خاصمته هويتان، ولم ينل اعترافاً كاملاً من واحدة منهما، فبقي في منزلة ما بين المنزلتين. ورغم أن البيئة الفلبينية كان لها الحيز الأبرز مكانياً في الرواية، على الأقل في عين بطل الحكاية، إلا أن الحيز الآخر لم يغب، إذ حضرت ملامحه، لاسيما أن عيسى تنقل بين أمكنة عدة، وجال بأمكنة كثيرة، حضرت بأسمائها، حتى ولو غابت معالمها، على عكس حاله مثلاً مع البيئة الأولى التي تفتحت عينه عليها، ربما لأنها المستقر الأخير، ولأنه لم يخرج من الكويت، المفترض أنها بلده، سوى بحفنة من تراب مقبرة الأب، واسم لعائلة كبيرة، كانت سبباً في عدم الاعتراف به، والاستقرار في وطن الأب الراحل، إذ استسلم عيسى، في النهاية، لرغبات جدته وعماته، واكتفى من الكويت بما تيسر.

شخصيات

لم تستأثر شخصية عيسى وحدها باهتمام صاحب «ساق البامبو»، إذ اشتغل الكاتب على شخصيات برزت هي الأخرى، وكانت ذات صدى في الرواية، ولعل من أبرزها شخصية الأم جوزافين، فوراؤها جزيرة من الحكايات والأمنيات والأحلام وقصص المعاناة والمآسي التي تبرز كيف تحولت من فتاة رومانسية مثثقفة ذات أحلام عريضة في التعليم والجامعة، الى خادمة تأتي الى مكان لا تعرف عنه شيئاً، وتحب وتتزوج سراً في الغربة، وتطرد بعد ذلك، على وعد قريب بالعودة، ثم لا تلبث أن تتعقد فصول حياتها من جديد، إذ تنقطع أخبار من كان زوجاً وأيضاً معوناته التي يرسلها لطفله، وتضطر الى العمل خادمة من جديد، مرة في البحرين، وأخرى في منزل إحدى العائلات الثرية في بلادها، وترزق بولد آخر بعد زواج ثان، ولكن لا يلبث ذلك الصبي الجديد أن يصاب بعاهة إثر حادث غرق. يقول عيسى: «ما كدت أبلغ العاشرة من عمري حتى بدأت والدتي تخبرني بتلك الحكايات التي مضت قبل مولدي، كانت تمهد لي درب الرحيل. قرأت لي بعضاً من رسائل والدي اليها، عندما كنت هناك، في صالون بيتنا الصغير، إلى جانبها. وأخبرتني بكل تفاصيل علاقتها بأبي قبل أن أعود إلى حيث وعدها. كانت تحرص بين الحين والحين أن تذكرني بانتمائي إلى مكان آخر أفضل. وعندما بدأت النطق في سنواتي الأولى، كانت تلقنني كلمات عربية: السلام عليكم.. واحد اثنان ثلاثة.. مع السلامة.. أنا.. أنت.. حبيبي.. شاي قهوة. وعندما كبرت كانت حريصة كل الحرص على أن تحببني بأبي، ذلك الذي لم أره. أجلس أمام والدتي، في بيتنا هناك، منصتاً اليها وهي تحكي لي عن والدي.. تقول أمي أحببته، ولازلت، ولست أدري كيف ولماذا؟ ألأنه كان لطيفاً معي في حين كان الجميع يسيء معاملتي؟ أم لأنه كان الوحيد في منزل السيدة الكبيرة، الذي يتحدث إليّ في أمور غير إعطاء الأوامر؟ الأنه كان وسيماً؟ أو لأنه كان شاباً كاتباً مثقفاً يحلم بكتابة روايته الأولى وأنا التي أدمنت قراءة الروايات».

أطياف

بعيداً عن شخصية عيسى والأم، برزت شخصيات عدة في «ساق البامبو»، ومنها شخصيات غير محورية، بقيت كلماتها تتردد، ولاحت أطيافها على امتداد العمل، حتى ولو غابت أجسادها، ولعل أبرز تلك النماذج شخصية الجد ميندوزا الذي يبدو صاحب أساطير وحكايات، يضرب بجذوره في تاريخ بلده، ويرفض هو الثاني الاعتراف بحفيده عيسى، إلا بعدما ظن أنه فقده، واعتقد أن الولد الذي ضاق ذرعاً بطلباته قد استحال إلى نبتة أناناس، كما تقول الأسطورة. ومن تلك النماذج أيضا، غسان، صديق والد عيسى، ورفيق كفاحه، والوفي الذي عمل على جلب عيسى إلى الكويت، تنفيذاً لرغبة الأب، والمفارقة أن ذلك الوطن، لم يتقبل الوافد عيسى، كما لم يعترف بغسان الذي بقي وجها آخر من وجوه أزمة الهوية في «ساق البامبو». ويعيش غسان حياة مغلفة بالحزن، إذ لم يتمكن من الارتباط بمن أختارها قلبه، لأنها من عائلة كبيرة، رفضت أن تعطي ابنتها لرجل من «البدون».

يشار إلى أن رواية «ساق البامبو» هي العمل الثاني للكاتب سعود السنعوسي، الذي بدأت رحلته مع الرواية بـ«سجين المرايا» التي فازت بجائزة «ليلى العثمان لإبداع الشباب»، بينما حازت «ساق البامبو» جائزة الدولة التشجيعية في مجال الآداب بالكويت.

تويتر