معرض بمبنى المقتنيات في الشارقة يتناول الاحتلال والهويات والمنفى والتحولات

«على الرغم من ذلك».. يرصد جـــوانب متوارية في النفس والواقع

صورة

يرصد معرض «على الرغم من ذلك» التحولات الاجتماعية والسياسية في مناطق عدة من العالم. ويعرض الفنانون المشاركون في المعرض تصوراتهم النقدية والجمالية لظواهر في الحياة، علاوة على إظهار صورة الجوانب المتوارية في النفس وفي الواقع المعيشي للناس. وترتبط أعمال المعرض بعالمنا الغارق في حالة من التحول الصاخب، إذ إنها تستكشف آثار الحداثة وتجارب العنف، والحياة في المنفى، والتضاد الداخلي الذي يعيشه المهاجرون بين ثقافتين، وإشكالية الوعد بمستقبل أفضل وتحدي شعور الحنين. وتعلي الأعمال من شأن النظر في الزائل في حركة الزمن، من جوانب إنسانية ونقدية وجمالية وسياسية.

ويقدم المعرض الذي افتتحته الشيخة حور القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، أول من أمس، في مبنى المقتنيات، بمنطقة الفنون بالشارقة، مجموعة أعمال من مقتنيات مؤسسة الشارقة للفنون، تمثل مجموعة من الاستجابات الفنية لأكثر القضايا الملحة التي نواجهها اليوم، من بينها التحولات الشخصية والاجتماعية للتطور الحضاري والاقتصادي المتسارع، حين يواجه الصراع مع الماضي الفساد وتغيرات الحاضر، والبحث عن البقاء في خضم الأوضاع الاجتماعية أو السياسية. كل ذلك هو بعض من الجوانب المستقاة في مقاطع الفيديو والأعمال التركيبية التي يتضمنها المعرض .

ويضم المعرض 14 عملاً فنياً من الأفلام وأعمال الفيديو، وهي من مقتنيات مؤسسة الشارقة للفنون، للفنانين آيرين أنسطاس ورينيه غابري، جان لوك مولين، مليك أوهانيان، شريف واكد، معتز نصر، مها مأمون، رائدة سعادة، رشيد مشهراوي، نيكولاي لارسن، ماريو ريتسي، جايس سلوم، ليو وي، جلنارا كاسمالييفا ومراتبك جماليف، ومارسيل أودنباخ.

وجاء في كتيب المعرض «نعيش اليوم في عالم يعجّ بالعنف والتطرف، الذي يمارس باسم التنوير والحكمة واليوتوبيا. في هذا المعرض سُلّط الضوء على هذه المفارقة بشكل نقدي وإبداعي في أعمال الفنانين».

الوجود والفناء

في عمل «البقية تأتي» يتطرق شريف واكد إلى مقاطع الفيديو الاستشهادية، فنراه يستغرق في مسألة الزمن والفناء، وبشكل يؤجل فيه لحظة الخسران الحتمية والأكيدة، وبشيء من الريبة يعكس واقع الاحتلال الذي يعيشه الفلسطينيون. ويسبر العمل أغوار الوقت والسرد التاريخي والفناء، من خلال تطرقه إلى موضوع فيديوهات الاستشهاديين، التي توثق لأفراد عقدوا العزم على تنفيذ عملية انتحارية، فنرى في العمل شاباً، يقرأ نصاً يفترض أنه وصيته الأخيرة، فيما نجده في حقيقة الأمر منشغلاً في قراءة لا تنتهي من كتاب «ألف ليلة وليلة». ومن خلال عملية لا تنتهي من القراءة والسرد، يؤخر الشهيد الحي لحظة التضحية المطلقة، قتل النفس وقتل الآخرين، إذ تصبح عملية القراءة بلا خاتمة والفيديو يستمر بلا نهاية حاسمة، فوظيفة الشعر والخيال والنص أن تؤخر ظاهرياً وقوع الموت الحتمي. إن وجود الشهيد الحي في حالة ديمومة معلّقة يصبح محط تأمل للخط الرقيق بين الآني والأزلي وبين المحتم والمؤجل بشكل أبدي. كما يعكس العمل معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.

وفي عمل «شهرزاد» لرشيد مشهراوي يتناول الفنان إحساس الانتظار والشعور الممض في الروتين، حيث هو العنصر المميز في الوضع الفلسطيني، الذي ينطوي على تمرد مستمر.

آيرين أنسطاس ورينيه جابري تجولا في فلسطين، منقبين في الحالة الفلسطينية، ليبتكرا «ما يعرفه الجميع» سلسلة من أفلام وثقت لقاءاتهم مع شعب يقاوم ويناضل ولايزال يحيا. تلك اللقاءات تستنطق الجدل في الملامح الاجتماعية والسياسية لحياة الفلسطينيين المعاصرة في فلسطين المحتلة.

وتركز رائدة سعادة في عملها على تجاربها بوصفها فلسطينية تعاني الاحتلال الإسرائيلي، إذ وظفت جسدها لتنتقد وتتحدى الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين. وفي عملها «مكنسة كهربائية» تؤكد سعادة خواء نزعتنا لإشباع ذواتنا بالواجبات المملة والتي تبدد القضايا المتجذرة والعصية على التنظيف. هذا الانشغال الدنيوي يشار إليه أيضاً في عمل «الصدى» لمعتز نصر، إذ يبين أنه على الرغم من التقدم الحاصل في المجتمع المصري عبر سنين، إلا أنّ عيوب الماضي لاتزال عالقة حتى اليوم.

جايس سلوم يجمع الروايات الشخصية الشفوية في محاولة لتوثيق شهادات من النازحين والمحرومين وضحايا السياسة والناشطين في أماكن كلبنان ويوغوسلافيا سابقاً. وفي الجزء الأول من «كل شيء ولاشيء وأعمال أخرى» غير المعنون تكون أفلام سلوم محادثة حميمة مع سهى بشارة الأسيرة السابقة والمقاتلة اللبنانية والمناضلة الوطنية في مقر إقامتها بباريس بعد سنة واحدة من الإفراج عنها من معتقل الخيام (مركز التعذيب والاستجواب في جنوب لبنان).

بشارة تتحدث برقة أمام الكاميرا التي كانت تقترب من وجهها تارة وتبتعد تارة أخرى، مقتنصة بذلك التغيرات الدقيقة في تعابيرها. إنها لم تكن تسرد مبادئ المقاومة أو الظلم التي عانته ورفاقها، بل كانت تتحدث من منطلق شخصي عن تجاربها، الوشائج التي كونتها، والمشاعر التي خبرتها في عالم الاعتقال الغريب.

يستكشف ماريو ريتسي أيضاً تلك الهوّيات. و«في خارج المكان» يرصد ريتسي جيل المهاجرين الثاني في باريس، في صراعهم مع مشاعر النزوح. ويتجنب الفنان التقليدية في تصوير حياة المهاجرين من خلال تركيزه على المفارقة بين الاغتراب والاندماج والمحرومين، وعلاوة على ذلك اختار أن يصور الأكاديميين وأصحاب الياقات البيضاء ويستقرئ سلوكياتهم بين ثقافتين.

في «السياحة الداخلية» تعيد مها مأمون صياغة الرمز القومي للأهرامات ومن خلاله صورة مصر من التبسيط والتلميع في البطاقات السياحية والإعلانات التجارية وأفلام هوليوود، إذ انها تسلط الضوء على الفرق الواضح بين الطريقة التي يسوق البلد فيها، بين كيف يراه العالم الخارجي وما يتولد من تجارب الناس المحليين. وفي عمل «قصص الرجال» نرى مارسيل أودنباخ يحقق في طقوس الذكورة، ويبرز الكبرياء والعزة والحرية الشخصية، حيث يبين الفيديو كيف يمكن للفرد أن يصبح سجين قيمه الثقافية، ويدرس النضال ضد القمع، وممارسات التغيير للتراث والتقاليد.

تساؤلات

حوارات الباحة

أثار معرض «على الرغم من ذلك» الذي يقام في الفترة من الثالث من نوفمبر الجاري حتى الثالث من يناير المقبل، في مبنى المقتنيات، بمنطقة الفنون بالشارقة حوارات بين الحضور حول القضايا التي تتناولها الاعمال الفنية، إذ شهدت الباحة الخارجية للمبنى نقاشات بين جمهور المعرض حول المفاهيم الجديدة للفن ودوره في خلخلة بعض الصور التقليدية، إذ يركز الفنانون في كثير من أعمالهم على نظرة تهكمية وناقدة لمجريات اجتماعية وسياسية وثقافية.

حضر افتتاح المعرض الشيخة بدور القاسمي، رئيس هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير «شروق»، ورئيس مكتب تطوير القصباء، والشيخة أمل مانع آل مكتوم، ورئيس دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، عبدالله العويس، والقنصل العام للولايات المتحدة الأميركية، روب وايلر، والقنصل العام لجمهورية قرغيزستان، كوبان أوموراليف، والقنصل العام لليابان، موستانغا دايسوكي، والقنصل العام لجمهورية بيرو، رومولو أكيوريو، ومدير إدارة الفنون في دائرة الثقافة والإعلام، هشام المظلوم، والمدير التنفيذي لهيئة الاستثمار والتطوير «شروق»، مروان السركال، والمدير العام لغرفة والتجارة في الشارقة، حسن المحمودي، وميثاء الفلاسي، ومدير الرابطة الثقافية الفرنسية، أوبير سوفان، ونائبة مدير الجامعة الأميركية في الشارقة، الدكتورة ندى مرتضى.

مراتبك جماليف وجلنارا كاسمالييفا استحضرا الأحداث الاقتصادية والسياسية المعاصرة للدول السوفييتية السابقة، خصوصاً وطنهم قرغيزستان، فنحو المستقبل يعرض التأمل في آثار التقدم والتحول. يثير الفيلم تساؤلات حول كيفية التعامل مع مرحلة العبور إلى المستقبل، ويشير إلى التناقض بين ما نتصوره غالباً وبين ما نراه في الواقع. وبشكل مشابه يخوض ليو وي في «الأرض اليائسة» غمار التنمية الاقتصادية السريعة وما ينجم عنها في بكين، فعمله يرتبط بالهويات الهامشية التي تشكل الثقافه الأوسع، وفي كثير من الأحيان ارتبط بالمظاهر الاجتماعية كالفساد وفرط العنف بكل أشكاله. ويظل سؤال وي مقلقاً: كيف سيغدو المستقبل إذا احتدم الطريق إليه؟

تطرق الفنانان نيكولاي لارسن ومليك أوهانيان إلى حياة العمال القادمين إلى الإمارات. وفي «موعد غرامي» يحاول لارسن أن يلتقط المشاعر الجياشة في الفضاء التجريدي، ما يشطر العمال عن عائلاتهم في بلدانهم. ويستكسف مليك أوهانيان في عمله «الأيام، أرى ما رأيت وما سأرى» الذي صور خلال 11 يوماً في سكن العمال في الصجعة في الشارقة. ويبحث الفيلم إمكانية إنتاج تمثيل مستمر للفضاء وآخر متقطع في الوقت نفسه. ونرى فيديو «موعد غرامي» عبارة عن «وثائق شعرية»، حيث أمضى لارسن في عام 2008 شهراً في التجول بين الإمارات وكيرلا في الهند، يقابل ويصوّر عمالاً وعائلاتهم، وقبل بداية الفيلم طلب من العمال أن يفكروا ويناجوا عائلاتهم، كما طلب من العائلات الشيء ذاته، وأنتج مجموعتين من اللقطات عرضتا بشكل متقابل في الغرفة، ووضع الجمهور في هذا السياق العاطفي برفقة الموسيقى الصوتية التي أنجزت بالتعاون مع ميكيل ايريكسن، وهكذا فإن الطبيعة المؤثرة والشاعرية لـ«موعد غرامي» تعلق المشاهد مجازياً وجسدياً بين نظرات هؤلاء الذين يظهرون في الشاشة، ومشاعر الأمل والتوق تنتقل بين العامل وعائلته.

«لافيجيه» لجان لوك مولين، عمل فوتوغرافي يصور نبات «الباولونيا تومنتوزا»، إذ لاحظ نموه من صدع في الأسفلت بباريس على مقربة من وزارة الاقتصاد والمالية. لا فيجيه تتبع أثر تطور النبات على مدار سبعة أعوام. إن التغير الدائم في تخطيط المدن للحواجز والأعمدة، يكون جنباً إلى جنب مع هذا النبات المتيقظ. وهو العنصر الدخيل الذي ينمو في أفق المدينة، رغم أن جذوره تضرب في بيئة غير مناسبة لنمو صحي.

«الأرض» فيلم ليوسف شاهين ،1969 عن رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي سنة 1968 التي تستكتشف نضال مصر ضد الاحتلال البريطاني عام 1930 في زمن كان العالم فيه يعاني الكساد الاقتصادي. ومن أهم مشاهد الفيلم ذاك الحوار الذي أداه بطل الفيلم أبوسويلم، إذ عبر عن استيائه العميق من السلوك غير المبالي والسلبي للشعب المصري تجاه الشؤون الاجتماعية والسياسية في البلاد. وعكست تلك اللحظة السينمائية القوية حالة المجتمع الراكدة، وبلورت مشاعر الإحباط وخيبة الأمل التي تقاسمها العديد آنذاك، حتى يومنا هذا يبقى صدى المشهد عالقاً في أذهان الناس في مختلف أنحاء العالم العربي، وكثير منهم لايزال قادراً على سرده من الذاكرة.

في عام 2003 صوّر الفنان معتز نصر مقابل الحوار المعروف في مشهد الأرض، مشهداً لراوية القصص المصرية شيرين الأنصاري، التي نراها تقف وسط مقهى في القاهرة مرددة الحوار بالروح نفسها، في الفيلم إسقاطات الصور مواجهة لبعضها بعضاً وتردد صدى بعضها بعضاً، في إشارة إلى أن المشكلات التي واجهت المجتمع المصري في عام 1933 و1968 لاتزال من دون حل حتى عام .2003

تويتر