رواية الأردني إلياس فركوح تنطلق من عـمّان الأربعينات

«غريـق المـرايا».. سرد يوقـظ سارقي النار

الرواية تحفل بالشخصيات الواقعية والمتخيلة. الإمارات اليوم

سارد بسمات خاصة، يمزج ما بين الواقع والأسطورة، ينطلق من عمان القديمة وما حولها من بوادٍ، ليحط في أمكنة وأزمنة عدة، يوقظ سارقي النار من سبـاتهم التاريخي، يتـأمل يومياتهم تارة، ويحاكم عوالمهم تارة أخرى، حكّاء ينشد أن يعلّم القارئ الجمال والصبر وحب المغامرة، وأن الكتابة رحلة جسورة تواجه السـائد، ولا تهاب الدخول في صراع مع الشكل والمضمون المستقرين في الوعي.. إنه المبدع الأردني إلياس فركوح، وجديده رواية «غريق المرايا» الصـادرة أخيراً عن الـدار العـربية للعلوم ناشرون في بيروت، ودار أزمنة بعمان.

مؤلفات

ولد إلياس فركوح في عام ،1948 ومن بين مؤلفاته القصصية مجموعات «الصفعة» ،1978 و«طيور عمان تحلق منخفضة» ،1981 و«إحدى وعشرون طلقة» ،1982 و«أسرار ساعة الرمل» ،1991 و«الملائكة في العراء» .1997 ومن رواياته «قامات الزبد» التي اختيرت من ضمن أفضل 100 رواية عربية في القرن الماضي، و«أعمدة الغبار»، و«أرض اليمبوس» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في عام .2008 ولفركوح عدد من الترجمات، كما كتبت عن أعماله العديد من الدراسات النقدية المتخصصة.

تحتشد رواية فركوح الجديدة بالغرقى، فثـمة بحـر «مـيت»، وآخـر «حي»، وعلى ضفافهما بشر بأحلام صـغيرة، ونـازحون وهـاربون من، وإلى أيضاً، صراعات وحروب كبيرة، كما تحتشد الرواية بالمرايا التي تحيط بـ«ساكن الحكاية» الراوي الرئيس المولع بالتدقيق في الوجوه، وتـاريخه الشخـصي، وحيـاة أمـه المـغلفة بجو أسطوري، ميلاداً وزواجاً وإنجاباً وحباً واختفاءً، ومولع أيضاً بتتبع مصائر مناضلين وساسة وأنـاس عـاديين، أبنـاء منطقة فوارة بالأحداث والأحزان.

ورغم ذلك لا تضن الرواية بتوزيع مرايا على آخرين، لكي ينالوا نصيبهم من البوح، ويكشفوا عما يعتمل في ذواتهم، ويتأملوا صورهم وصور غيرهم، كاشفين ملامح جديدة، تصبّ كلها في نهر الحكاية، وتساعد على رسم تفاصيل المشهد من زوايا أو من «مرايا» مختلفة، فلا فارق.

متخيلة وواقعية

تتعدد الأصوات في «غريق المرايا» التي تقع في 237 صفحة، لتعوّض غياب الحوار وندرته، فيجد المتلقي نفسه يستمع إلى حكايا كثيرين: نوفة، والحاج خير الدين البخاري، ونيكولاس، وخليل، وأكرم، وشكيب أفندي، وغيرهم من الشخصيات التي تستعرض كل واحدة منها جزءاً من مأساتها الخاصة، لتبرز في النهاية الحكاية كاملة.

وتضاف إلى تلك الشخصيات المتخيلة أخرى واقعية، يضفرها المؤلف في الرواية، ويشركها في صنع الأحداث، يستدعي بعضها بشكل سريع، وبعضها الآخر يتكرر اسمه، وتفرد له مساحة خاصة، كما هي الحال مع هزاع المجالي، رئيس الوزراء الأردني الذي اغتيل في عام ،1960 إذ استعان إلياس فركوح بجزء من سيرة المجالي وبمقتطفات من كتابه «مذكراتي».

ومن بين الشخصيات التي توظف بشكل سريع المناضل الفلسطيني جورج حبش، والروائي الأردني غالب هلسا، ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، وغيرهم ممن شكلوا خيطاً واقعياً، خفف حالة التداعي، وتداخل الأزمنة والأمكنة في «غريق المرايا».

يبدو الراوي الرئيس مهموماً بماضيه قبل حاضره، إذ إنه يرث، رغما عنه، مخطوطات وأساطير وهموماً، يترك له مرشده الروحي شهاب الدين البخاري فرائده وأوراقه وداره، ويختفي، وترحل أمه نوفة هي الأخرى، ولا يعرف لها مكاناً، ويختار هو ذاته الهروب من عمان، إثر أحداث مطلع السبعينات، يتعلل بالعلم ودراسة الفلسفة ويمضي إلى حلب، وكأن ذلك بمثابة سكة هروب، استطالت بعد ذلك، وتنوعت محطاتها، بعدما عمل بحارا يطوف الدنيا، ويحاول الابتعاد، قدر الإمكان عن منطقة مفخخة بالأحزان، ورغم ذلك يعود إلى موطنه الأول.

ومن أجواء الرواية «ما بي كلما عدت للوراء عبر الكتابة أصطدم بأناس موتى! أو قتلى! أو ابتلعتهم ريبة الاختفاء كأبي، والحاج خير الدين شهاب الدين البخاري، الذي أورثني كل ما ملكت يداه في هذه الدنيا الفانية، بحسبه! كتبه الكثيرة وخزانتها. بيته وحديقته الجرداء بسورها الواطئ عند السيل. عاش وحيدا بلا صاحب حميم ولا وارث من صلبه. سألته ذات يوم عن اكتفائه بنفسه، وكان بمقدوره الزواج، فقال: الزواج مجبنة ومبخلة ومضيعة لوقت التفرغ لتحصيل العرفان، وأشار إلى كتبه! أهنالك ما يربط الكتابة بالموت؟ أو أن الموت يستدعي الكتابة قبل حلوله؟ ما علينا. أكنت أنت القتيل في حلم أمي تلك الليلة، أم كان هو أنت؟ ما أعرفه حقا هو أنك ما عدت أنت الأول والواحد والوحيد ونفسك. بت كثيرا، وتعددت، وظني أنك صرت غير قابل لأن تحصى! ألأنك رقم صعب، تقف لتنظر إلينا من خارج الجداول! أو بالأحرى ينظر إليك من خارجها! ما علينا».

منها وإليها

بؤرة حيز السرد في «غريق المرايا» هي العاصمة الأردنية عمان، بملامحها القديمة، وتفاصيلها يستحضرها السارد من أربعينات القرن الماضي تحديداً، لكن تتنقل الرواية بين أكثر من حيز وزمن، لترتحل إلى حيفا العشرينات، وأيام الاحتلال الإنجليزي، وتقفز إلى مكان ثالث، ويكون هذه المرة بيروت المحاصرة في الثمانينات، وتحطّ بشكل سريع على جزر وأمكنة أخرى دونما إبراز لها، لتكون محطة العودة، هي محطة الانطلاق نفسها، عمان التي تتنوع أزمنتها ما بين حقب مختلفة، يكون منتصف التسعينات هو خاتمتها.

كما تقترح الرواية نمطها السردي الشديد الخصوصية، تقترح أيضاً لغتها المتفردة، تشتغل عليها طويلاً، تنحتها أحياناً، وتنوع في مستوياتها أحياناً أخرى، فهناك لغة الشيخ الوراق شهاب الدين البخاري، وهناك لغة مذكرات المجالي، وهناك اقتباسات من مصادر عدة مضفورة في الرواية، غير ناتئة عن سياقها اللغوي العام: «من يلعب بالنار يحترق بها، نبهه أبوه. غير أن اليتيم أخبره، بعد سنوات قليلة، أن النور والنار يصنعهما الإنسان أيضا. وأراه داخل صفحة كتاب معه، دائما ثمة كتاب يحمله، رجلا يركض صاعدا جبلا، وفي يده شعلة نار! وأننا إذا ما أردنا نقدر على قطف النجوم من أشجار السماء! ثم عاد وكرر على مسمعه، لما صـادف وأن كـانت إحـدى محطاته مرفأ بيروت: اقطف نجـومك بـيدك! حـاذر، حـكم عقلك، ولكـن لا تـخف! اتخـذا يومذاك أحد مقاعد رصيف الكورنيش مجلسا لهما. كانت صخرة الروشة على مرمى النظر. تبادلا ذكريات تخصهما. أخبره اليتيم بأن أمه ضاعت بين بلدان العالم، وأنه واثـق بعثوره عليها في يوم ما. في مرفأ ما. في مدينة ما. بالمقابل حدثه هو عن لقاء المصادفة بالحكيم جـورج حبـش (زارنـا في معسـكر صور)، فـتذكره وتـذكر يوم حمله خليل ولدا شقيا أدخل حبة (قضامة) في أنفـه فانتـفخت وكادت تخنقه! فقال له أتذكر. أخرجتها لك بالملقط. عليك الآن إخراج ما يخنقط بأظافرك! أمضيا وقتا صمتا فيه. سكن الواحد منهما إلى نفسه. بين حين وآخر تتناهى إلى سمعهما أصوات إطلاقات قريبة. وفي جسديهما يتوالى وقع دبيب عميق يكاد يخلو من أي صوت. دبيب لسقوط أثقال هائلة في البعيد، خلف الجبال. ينظران في عيني بعضهما، فيعلق اليتيم كأنما يحادث نفسه: سوف تقترب شيئا فشيئا».

تويتر