الكاتب المصري بهاء طاهر لا يرضى بــــــأنصاف الحلول في الإبداع

«واحة الغروب».. مطرزة بالجمال والأسئلة

حينما فازت رواية «واحة الغروب» بجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى، رأى بعض النقاد أن الجائزة ذهبت إلى اسم بهاء طاهر، وليس إلى «واحة الغروب» تحديداً، وصنفوا الرواية بأنها لا ترقى إلى مصاف كتابات صاحب «قالت ضحى»، و«خالتي صفية والدير»، و«بالأمس حلمت بك». لكن القراءة المتأنية لـ«واحة الغروب» قد تخالف رؤية أولئك النقاد، وتقطع بأن أصحاب القامات الأدبية، وبهاء طاهر في مقدمتهم، لا يرضون بأنصاف الحلول في الإبداع: فإما أن يكون عملاً مصفى، يعد إضافة حقيقية لتاريخ الكلمة، وإما احتراماً للذات والقلم، بالصمت والاشتغال على مهل.

محروسة رواية «واحة الغروب» بعالم من الجمال، بصورة تصيب من يتناول الرواية بالحيرة: من أين يبدأ؟ من الأزمنة التي تخيرها بهاء طاهر لروايته، واصلاً القرن الـ19 بما قبل التاريخ؟ أم من الأمكنة، سيما تلك الواحة الوادعة، المطرزة بالنخيل ومعابد الأجداد في صحراء مصر الغربية؟، أم من أعماق الشخصيات الثرية بالتفاصيل والأرق، والتي تلخص مأساة الإنسان، يستوي في ذلك ضابط عاش في القرن قبل الماضي، مع الإسكندر الأكبر، القائد الذي شرق وغرب بفتوحاته وانتصاراته؟ أم من تقنيات السرد، وتعدد الأصوات في الحكاية، وجماليات اللغة المحلقة دوماً؟ الأمر الذي سيجعل هذا العرض ينصرف إلى جزء من الملمح الأول، مكتفياً بتناول بعض ملامح الشخصية الرئيسة في الرواية.

ما يميز الشخصية، بشكل عام، في «واحة الغروب»، هو بعدها عن الجمود، وإطلالتها في وجوه متعددة، تبرز قسمات الإنسان المختلفة: جبروته وضعفه، جانبه المعتم، والآخر المنير الذي يكون قابعاً في ركن قصي، يحتاج إلى نبش للوصول إليه، والعثور عليه، فغالبية شخصيات الرواية تجافي الأحادية والصفات الثابتة، ويصعب الحكم عليها، إذ يجد القارئ نفسه مرة حانقاً عليها، وأخرى متعاطفاً معها، ولعل أبرز شاهد على ذلك بطل الحكاية، المشابه لأبطال منتصف الطريق، الذين تأتي شجاعاتهم متأخرة، لتكون هي والجبن سواء.

تفرد «واحة الغروب» الصادرة عن دار الشروق المصرية في 345 صفحة، مساحة ممتدة لشخصياتها، لتبوح بمكنوناتها تارة، وتسرد طبيعة علاقتها بالآخر، ورؤيتها له تارة أخرى. وتعنون الرواية فصولها باسم شخصياتها الرئيسة، واللافت أن تلك الشخصيات لا تفرغ من سردها في فصل واحد، بل تعاود الكلام في مواضع مختلفة من الرواية، لتواصل اكمال الحكايات، والإبانة عن ذاتها، أو عن غيرها، أو مجريات الأحداث كذلك، على عكس المتعارف عليه في أعمال روائية عدة، ومن أبرزها رواية «ميرامار» للراحل نجيب محفوظ، ليثبت بذلك بهاء طاهر أنه لا يشبه إلا نفسه، وأنه نسيج روائي وحده، إذ لا يستعير أصابع غيره، على حد وصف الراحل يوسف إدريس.

خيط واقعي

التقط بهاء طاهر خيط شخصية بطل «واحة الغروب» محمود عبدالظاهر من الواقع، إذ صرح في مقدمة الرواية بأن «الاسم الحقيقي لمأمور واحة سيوة في أواخر سنوات القرن الـ19 هو محمود عزمي، وإليه ينسب عمل ترك أثراً باقياً في الواحة سيتعرف إليه القارئ في موضعه من الرواية. وباستثناء ذلك لا توجد أية معلومات تاريخية منشورة عن هذا المأمور أو عن سيرة حياته».

طوّر مبدع «الحب في المنفى» ذلك الخيط الواقعي، وغزل بخياله الفني عالماً متكاملاً لتلك الشخصية، واضعاً إياها في بحر من التساؤلات والمحاكمات التاريخية، إذ مد ذلك الخيط إلى منتهاه، فاشتبك بثورة كبرى وأحداث غيرت وجه مصر، في نهايات القرن الـ،19 إذ حاكم، محمود عبدالظاهر، تاريخ بلاده، ونفسه قبل ذلك، واختار أن تكون نهايته المأساوية في رحاب ذلك التاريخ.

عاش محمود عبدالظاهر «طفولة سعيدة وصبا أسعد. لم يبخل أبي علي أنا وأخي الأصغر بأي شيء. لم يحرمنا أي متعة ولا قسا علينا حتى نهتم بالتعليم وننتهي منه في الوقت المناسب. أحب أخي سليمان أن يقضي معظم وقته مع أبي في متجره بالموسكي، يتعلم أصول المهنة. أما انا فلم يعكر صفو حياتي شيء. البلد كله كان يغلي في آخر أيام الخديو إسماعيل وأنا أتلكأ في المدرسة التمهيدية حتى يقترب سني من العشرين... وبيتنا الكبير في عابدين لا تنقطع فيه الولائم، ولا يكاد يخلو ليلة من الضيوف، وحفلات السمر، وأشهر المطربين والمطربات».

تتعرض تجارة الوالد لخسارة كبيرة، ما يفرض على محمود تغيير نمط حياته، إذ يلتحق بالشرطة، وبعد شهور من التدريب يصبح ضابطاً. يمثل ضرب الإنجليز للإسكندرية محطة مهمة في حياة الضابط الجديد، إذ كان وقتها معيناً في الثغر، و«تحولت الإسكندرية إلى شعلة من النيران بعد أن تجدد الضرب من الأسطول ولم تميز القنابل بين الحصون والبيوت ولا بين الجنود والأهالي».

استولى الإنجليز على البلاد، وصار محمود تحت قيادتهم، يتلقى أوامره منهم، بل واعتبر أحد المتعاطفين مع ثورة أحمد عرابي التي انكسرت بفعل الخيانة، وينقل بأمر ناظر إنجليزي إلى العمل مأموراً لقسم في واحة سيوة، ليمارس مهمة جباية الضرائب من أبناء الواحة، ما عمق الأحزان في نفسه، إذ رأى نفسه كأنه سيمارس سلطة القمع ذاتها التي يتعرض لها من قبل الإنجليز، سيمارسها على أبناء بلده في واحة سيوة.

اغتراب

يطل محمود، في معظم صفحات الرواية، في حالة شديدة من الاغتراب، تحجب عنه رؤية كل جمال، وتجعله فاقداً للتواصل حتى مع جمال الطبيعة من حوله، فواحة سيوة، ذلك المكان الخلاب، لم ينعكس في عينيه كذلك، والصحراء بكل صفائها غير قادرة على تسريب شيء من ذلك الصفاء إلى ذات ذلك المغترب. وهو أيضاً يعيش حالة من الهروب شبه دائمة، يفر من وجوه محبيه ومن يحتاجون إليه: من الحب الأول في حياته، وكذلك الثوار في زمن أحمد عرابي، ومليكة فتاة الواحة الجميلة التي قتلت، وحتى أخت زوجته التي عشقها، فبينما كانت في حالة ما بين الموت والحياة، اختار هو الهروب من العالم ككل، وليس منها فحسب. لكن موقفاً وحيداً أتى متأخراً جداً، تجاسر فيه محمود، ورد خلاله على أحد أذناب الاحتلال الإنجليزي، وهو ضابط معاون له، وكان ذلك قبل ختام الرواية بصفحات كثيرة. تمور ذات محمود عبدالظاهر بالأسئلة، يراجع نفسه دوماً، ويستشعر اغتراباً يعصف بها: «أزمتي؟ تسألني كاثرين عن أزمتي؟ أسأل نفسي؟ ها هي أزمتي... أتباهى أمام نفسي بماضٍ بطولي وأتعمد نسيان لحظة الخزي. أعتبر نفسي في الشرطة مظلوماً وشهيداً ولعلي أسوأ الجميع. الضابط المتمرد! المغضوب عليه بسبب ماضيه الوطني ايام الثورة! أعجبني الدور فصدقت نفسي.. انتهى وقت الخداع. ما الذي فعلته أنا بالضبط في الثورة؟ كنت أجري من شاطئ البحر إلى المستشفى لأنقل الجرحى والقتلى، رجال من أبناء البلد يلبسون الجلابيب، لا الزي العسكري، صعدوا إلى الحصون وأطلقوا المدافع مع الطوبجية، حملوا على أكتافهم الجرحى من الجنود ومن إخوانهم الذين سقطوا في القتال لينقلوهم إلى العربات التي كان دورك أن تجري أمامها. نساء من الإسكندرية أيضاً فعلن ذلك وصعدن إلى الطوابي وجرحن ولم يعتبرن أنفسهن بطلات ولا شهيدات. عشن في صمت ومتن في صمت فما فعلته أنت بالضبط؟».

وبعيداً عن البطولات المجهولة المنسية من قبل أناس عاديين من الشعب، يشير إليها الاقتباس السابق، فإن محمود يبدو مهموماً بمحاسبة الذات، إذ يمطر نفسه بوابل من علامات الاستفهام، ليحطم قناعات قديمة، أو ما اعتبرها في ساعة الحقيقة المحاسبة تلك بطولة زائفة. ويستمر حساب النفس دونما مسامحة، أو حتى محاولة التصالح مع الذات، وكأن محمود عبدالظاهر يستمرئ هذه الحالة المرضية من جلد الذات، والاستمرار في الصراع الداخلي مع النفس، والخارجي مع العالم، والمتمثل في أهل الواحة مرة، ومع الزوجة نفسها مرة أخرى، يقول محمود عبدالظاهر في إحدى نفثات غضبه، الداخلية: «المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف مؤمن ونصف عاشق. دائماً في منتصف شيء ما. لم أقتل مليكة بيدي لكني تركتها للقتل.. تحمست فترة للوطن وللثوار وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكاني».

تويتر