عبده خال يرتحل إلى فضاءات منسية وأحـبة ضائعين

«لـوعــة الغـاويـة».. عشّاق ونازحون وحوثيون

عبده خال لم يلجأ في جديده إلى شهادات رسمية. تصوير: إريك أرازاس

حكاية عشق بنهاية تعيسة، ومدينة شمالية رحبة تضيق بفتى من الجنوب، وقرى منسية تحيا بين جبلين ووطنين، وصراع قديم يتجدد بصور شتى، ونازحون أقصى أمانيهم العودة إلى الديار والرقدة الأخيرة بجوار مقابر الأحبة.. خطوط عريضة، تنسج تفاصيلها المشوقة رواية «لوعة الغاوية»، جديد المبدع السعودي عبده خال، والذي صدر حديثا عن «دار الساقي» اللبنانية.

يوسع صاحب «ترمي بشرر» هذه المرة فضاء عالمه الروائي، يرتحل بقارئه في «لوعة الغاوية» شمالا، إلى جدة، ثم يأخذه جنوبا، إلى جازان ومحافظاتها وقراها الكثيرة، ثم يجتاز الحدود السعودية ـ اليمنية، عبر جبال قاسية وبشر بمشارب شتى، بحثا عن حبيبة ضاعت منذ زمن، ويتورط رغما عنه في صراع كبير، لا يفتأ ان ينجو منه، لكن يجد نفسه في قلب آخر بانتظاره.

يطعم حامل «البوكر» العربية عمله الجديد بوقائع حقيقية، في مناطق ملتهبة شهدت أياما عصيبة، خلال تمرد الحوثيين، ودخولهم الأراضي السعودية، وتمكنهم من السيطرة على قرى حدودية، ومن بينها قرية الغاوية، التي اتخذ منها خال عنوانا لروايته، وحيزا تدور فيه بعض أحداث «لوعة الغاوية».

نبش

أعمال

ولد عبده خال في منطقة جازان، عام ،1962 حصل على بكالوريس العلوم السياسية من جامعة الملك عبدالعزيز. وعمل بالصحافة منذ عام .1982 حققت روايته «ترمي بشرر» نجاحا كبيرا، خصوصا بعد حصدها جائزة «البوكر» للرواية العربية، عام ،2010 إذ حققت الرواية مبيعات كبيرة، وطبعت طبعات كثيرة. ولعبده خال العديد من الروايات، من بينها: «الموت يمر من هنا»، «مدن تأكل العشب»، «الأيام لا تخبئ أحدا»، «الطين»، «فسوق»، و«ترمي بشرر». كما كتب عبده خال العديد من المجموعات القصصية.

كعادته، لا يلجأ عبده خال في عمله الجديد إلى شهادات رسمية، حول ما تم خلال فترة تمرد الحوثيين، بل يحاول، فنيا، استجلاء ما كان، وتشييد بناء روائي يرصد تاريخ تلك الأحداث بعين حكاء مرهف، إذ ينبش السارد في «لوعة الغاوية» في ما وراء الحدث، يصغي لهمس من وجدوا أنفسهم وسط صراع ملتهب، يسجل ما يدور في نفوس أناس بسطاء، يتحدث عن مشاعرهم وهم يتركون مراتعهم الخضراء ومراقد أهلهم، ليقيموا في خيام تحت صفة جديدة لم يعتادوها، وهي صفة النازحين.

وكما أن فضاءات «لوعة الغاوية» مترامية الحدود، ففصولها متشعبة التفاصيل، ومن الإجحاف اختزالها في حكاية تمرد، خلال فترة ما، إذ تثير الرواية التي تقع في 443 صفحة شجونا كثيرة، قد تلخصها هموم شخوصها، سواء من انفرد منهم بصفحات طويلة (مبخوت، فتون)، وحتى العابر (حفصة، أُنس)، من بقي جرحه غائرا في قلب الحي، يتردد صداه على مدار الحكاية.

تعددت الأصوات في «لوعة الغاوية»، لكن أكثرها توجيها لدفة السرد كان لمبخوت (فتى الجنوب ـ جازان)، وفتون (ابنة جدة التي تعلقت بمبخوت)، فالأول ترافقه منذ الميلاد دراما مركبة، يحاول النجاة منها، لكنه لا يستطيع، فهو طالب ومطلوب، يفتش القرى الحدودية بين السعودية واليمن، بحثا عن حبيبة ضائعة، فيما توجد أخرى تنقب عنه في بلده. سيرة حياة مبخوت اقتراب من الهلاك، ثم نجاة، رحيل أول لتوأمته حفصة، ثم رحيل آخر لحبيبة تزوجت بآخر، وتورط في قتل، وهروب إلى جدة، وطرد منها، وزواج وطلاق، وفي النهاية ميتة تراجيدية، معمّدة بدموع حبيتين، تستشعر وجودهما الروح، لا الجسد المتداعي.

بينما تبدو الدراما لدى الصوت الآخر (فتون) ذات ملامح مختلفة، بدأت مع الفتاة منذ الصغر، واستسلمت لها مع التقدم في السن، بل واستعذبتها في ما بعد، إذ أنفقت العمر باحثة عن مبخوت، الجار الذي استقر في حيهم بجدة سنوات قصيرة، وتم طرده بسبب جرائم شرف لم يرتكبها.

وعلى الرغم من أن هذين الصوتين تحكما في السرد، إلا أن توزع الفصول بينهما، وطول الصفحات المخصصة لأحدهما قد ينسي القارئ أحيانا سياق الأحداث، ويجعله بحاجة إلى العودة من جديد، لتذكر أين توقفت رحلة مبخوت، وعند أي مفترق سرد سكتت فتون عن آخر كلام، خصوصا أن الرواية حافلة بالأحداث والشخصيات والصفحات أيضا.

رسائل شوق

تحافظ اللغة على تأنقها في «لوعة الغاوية»، سردا ووصفا، تشفّ العبارات، وترق الجمل، وتتحول إلى رسائل شوق، من قلوب ملتاعة، يبثها عشاق لأحبة غائبين، لا يعرفون هل سيصادفونهم يوما، أم سيظلون في تلك الحالة من النجوى، ومحاولة التخاطر الروحي عن بُعد، من دون أمل في اللقيا. ورغم ذلك، يستوقف قارئ الرواية خلوها، إلا قليلا، من المستويات اللغوية المتعددة، التي تضفي تنوعا وثراء على العمل، إذ يلاحظ تشابه الأصوات، واقتراب اللغة حتى ولو اختلفت الألسنة، فالحكمة، كما تسري على مبخوت وفتون تسري أيضا على ألسنة غيرهم من الشخصيات، كأنما يوجد طرف ثالث، إن جاز التعبير، يقحم ذاته، ويستعير من الشخصيات دورها، ولسانها أحيانا.

ومن أجواء الرواية تقول بطلتها فتون: «في مجتمعي الحب فضيحة لأنه يكشف خياراتنا بين أناس لم يختاروا شيئا يخصهم، حتى لم يختاروا أزواجهم، ولهذا فمن يقترن يقترن بغير هوى أو خيار محض ينتن فتطفح آثامه، أعلم أن الحياة تتأرجح بين الإجبار والاختيار، لهذا قررت السير إلى حتفي مختارة، فالحياة تقول: اسقط باختيارك او اسمُ به، أما الإجبار فينقض بهجتك حتى لو كنت ملكا، بدأت حياتي بالإجبار وظللت أتنقل من حياة إلى أخرى مجبرة ومعنفة، كنت صغيرة، والرشد معناه الاختيار والتمييز، وأنا الآن أميز أن بإمكاني الوصول إلى غايتي، حبي لمبخوت نما في داخلي منذ طفولتي، تخمر فيّ لسنوات، وكان لابد من انتشار رائحته، فكل أعماقي تفوح به، والبوح بهذا الحب تهوية أو تسريب نتج من ضغط أبخرة شوقي، وإلا كنت سأنفجر كمدا، تعذبت بالصمت، صمت طويلا قبل إعلان حبي له، ورضخت لقاعدة حرمة إظهار مشاعرك، فالحب عيب وحرام وفجور، وقد طالت مدة عقوبتي من غير أن يبين أي ضوء في آخر النفق، لا أعرف جرمي فقد نبت في داخلي وأنا طفلة لا أفهم معنى تشجّر وتورّد إنسان في داخلك، وعندما كبرت وجدت أن جذوره متعمقة في كل خلية من خلايا روحي، عرفت أن هذا هو الحب».

وما يلفت النظر في «لوعة الغاوية» استسلام شخصيتي فتون ومبخوت في لحظات مفصلية، وإيثارهما الابتعاد عن المواجهة والدفاع عن الذات، ربما يأسا من دخول معارك مجتمعية غير متكافئة، لن يجنيا فيها غير مرارات جديدة، إذ لن يستطيعا تغيير ما استقر في قلوب كثيرين. فمبخوت مثلا حينما اتهم بأنه «سارق أعراض الصبايا»، وهجم عليه سكان الحي، لم يحاول أمام ذلك الهوس الجماعي الدفاع عن ذاته ولو بكلمة واحدة، حتى ولو لصديقه الذي أجاره في تلك اللحظة، وكذلك عندما روت زوجته لأهل الجنوب سبب طرد زوجها من جدة، بدا مبخوت غير مكترث لكل ما يدور حوله، لاسيما أن همّه الأكبر كان العثور على الحبيبة النائية (أُنس).

في المقابل، تتهم فتون، الطفلة التي لا تدرك شيئا، بأنها في فرطت في «جوهرتها المكنونة»، وحين تكبر توقن أنها تعرضت لظلم كبير، لكنها لم تعمل على تغيير شيء، وتدخل في ثأر مع من حولها، من ظنوها «ساقطة»، وظلت غير عابئة بنظرات الآخرين، بل بالعكس عملت على ترسيخ ذلك في نفوسهم.

تويتر