رواية شيرين هنائي ترصد حالة «منســــــــــــــــــــــية»

«نيكروفيليا»..انحرافات وشخصيات رمادية

صورة

خيراً صنعت الروائية شيرين هنائي، حين صدرت عملها «نيكروفيليا» بمقدمة قصيرة، تهيئ القارئ، وتخفف عنه ما سيأتي من تفاصيل عالم غريب، محتشد بالانحرافات النفسية والرعب والوحشة والشخصيات الرمادية، إذ تتناول الرواية واحدا من أبشع الأمراض النفسية، إن لم يكن أبشعها بالفعل.

استطاعت صاحبة «نيكروفيليا» أن تشيّد بناءً خاصا، جعل الرواية تبدو كأنها تجمع بين الواقع والخيال، يمتزج فيها الممكن بغير الممكن، تغوص وراء مرض نادر لا يصيب إلا عدداً قليلاً من البشر، لكنها تجسده في صورة حية، تستحق التعاطف معها حينا، والخوف منها، أو عليها، أحيانا أخرى، خصوصا أن مفردات عالمها هي الظلمة والعزلة والصمت والأحاسيس الشاذة.

لا توجد في «نيكروفيليا» شخصيات محورية كثيرة، فالرواية التي تقع في 107 صفحات من الحجم الصغير، تدور في فلك شخصية رئيسة، تتبع مأساة فتاة (منسية)، من بدايتها وحتى نهايتها، وتعرض نموذجا غريبا قابلا للتحول من المحبة إلى الكراهية، والقفز من البراءة إلى أشد صور القسوة، على الذات أولاً، وعلى أقرب الناس ثانيا.

على الطرف الآخر من «منسية»، توجد شخصية جاسر، من رأته الفتاة الصغيرة فارس الأحلام، وطوق النجاة، لكنه لم يكن كذلك، إذ وجد في منسية «فأر تجارب»، وحالة مرضية، وعيّنة شاذة، ستحقق له مجدا علميا، لكن كان للفتاة رأي آخر، إذ رفضت العلاج، معتبرة أن مجرد الاستجابة له ستبعدها عمن تحب، وستحرمها من نبع الحنان الوحيد الذي صادفت في حياتها، ولذا ظلت تقاوم محاولات طبيبها الشاب، لتتطور مسارات الرواية بعد ذلك.

لا «إثارة»

انحياز

تقول الكاتبة شيرين هنائي في مقدمة «نيكروفيليا» «لا أرى في البشر الأسود والأبيض فقط، إنما هي مساحة رمادية يتراوح فيها البشر بين الرمادي الغامق والفاتح، لا جناة هنا ولا أبرياء، فقط البعض يبدأ بريئا إلى أن ندفعه دفعاً إلى هاوية الإجرام، وبعضنا مذنب طهرته نواتج أفعاله حتى انتهى به الطريق أقرب إلى القديسين»

ولا تخفي الروائية المصرية، تحيزها لبطلة الرواية (منسية)، وتعاطفها عن هكذا نماذج، معتبرة أنها نتاج ظروف مجتمعية ما، ولذا تخاطب القارئ قائلة: «يمكنك أن تحب منسية أو تكرهها، يمكنك أن تلوم جاسر أو تجد له أعذارا، لكن بعد أن تغلق الرواية عدني أن تفكر مرة أخرى في أحكامك على من حولك، وإن لم تغير فيك الرواية شيئا، فلمني أنا، ربما يحتاج التغيير أكثر من مجرد رواية، ربما يحتاج إلى التجربة التي أسأل الله ألا يضعنا فيها، فلا يوجد أقسى من أن تعلمنا الحياة درساً».

يحسب للكاتبة الشابة شيرين هنائي التي حققت روايتها «نيكروفيليا» مبيعات كبيرة في مصر، ودخلت إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعا على مدى أسابيع طويلة، أنها لم تبالغ في تصوير تفاصيل ذلك عالم الـ«نيكروفيليا» الغريب، ولم تسعَ إلى التركيز على لحظات «الإثارة الحسية»، ومغامرات البطلة المريضة في المقابر، إذ نسجت تلك المشاهد بنجاح، في السياق الروائي، وكانت تتعمد المرور عليها سريعا، والإشارة إلى فعل ما من هذا القبيل أو ذاك، بكلمات قليلة موحية، لكنها كافية لتوصيل دلالات كثيرة عن مرض الـ«نيكروفيليا» (اشتهاء الجثث وعشق الموتى).

تحاول الرواية الذهاب بعيدا في مسارب النفس البشرية، للكشف عن معاناة نادرة الحدوث، لكنها موجودة، واللافت أن الكاتبة حاولت صبّ نظريات نفسية في قالب سردي، يركز على حياة منسية، وأفلحت في صنع ذلك إلا في بعض المناطق، نظرا للقفز السردي مع المبرر أحيانا، واسترجاع مناطق من حياة البطلة، بلا أي ترتيب أو تمهيد، والانتقال من حياة منسية، إلى سواها فجأة، ولعل ذلك يعود إلى تأثر الكاتبة بهوايتها الأخرى وهي رسم مشاهد الكويمكس، وكأن كل مشهد لوحة بحد ذاته، خصوصا أن الكاتبة خريجة فنون جميلة.

تدور الرواية في فضاءات وأمكنة بلا جماليات، راسمة بذلك جواً مقبضاً هي الأخرى، إذ تغمض فتاة الحكاية منسية عينيها عن كل ما حولها، لا ترى سوى حيزها المعتم، ولحظة تجهيز الأم بعد موتها، وقسوة الأب، ولا تشعر بأي قيمة لحياة تعتبرها من الأصل قبرا كبيرا، سيفضي بها إلى آخرضيق في ما بعد.

أحداث

تستهل «نيكروفيليا» أحداثها بمشاهد تصوّر حال بطلة الحكاية منسية، تلك الفتاة التي تعيش برفقة أب فظ، لا يشعر بوجود ابنته إلا حين يريد منها شيئا، وزوجة أب شديدة القسوة، تبحث عن الطعام الذي تكرهه منسية، وتجبرها على تناوله، و«تدسه» في فمها. تعيش منسية، كما اسمها، منسية تماما في منزلها وكذلك في مدرستها، لا تجد في البيت أنيسا سوى فأر في غرفتها المظلمة، بينما رفيقتها الوحيدة في المدرسة فتاة سيئة السمعة، تنفر منها الأخريات، ولا تجد أحداً تجلس معه غير منسية.

تعود مأساة منسية إلى طفولتها المبكرة، عندما ماتت أمها، وفوجئت بنسوة يحضرنها للدفن، سعت الطفلة لمعرفة ما حدث لأمها، والحاضرات يحاولن منعها، إلا أنها شقت صفوف النسوة، وفوجئت بأمها مغطاة بملاءة، وكل ما فهمته أنها لن تستطيع رؤيتها ثانية. منذ ذلك التاريخ المبكر بدأت مأساة منسية، وربما عقدها النفسية كذلك، خصوصا بعدما اقترن الأب بأخرى قاسية، عمقت جراح الطفلة الصغيرة.

وجدت منسية في ظلمة غرفتها ملاذا للبعد عن الأب والزوجة، خاصمت الطعام الكريه الذي تجهزه زوجة الأب، ازدادت مع الأيام نحولاً، وعانت كثيرا بسبب فقدان الشهية، حتى بدت شبحاً. في أحد الأيام تعرضت لحرق في رجلها، حملها الأب إلى أحد المستشفيات، وقام بتوقيع الكشف عليها بطل الحكاية الآخر الطبيب جاسر الذي لم يلتفت إلى الحرق الذي تعرضت له الفتاة فحسب، بل انتبه إلى حالتها النفسية، ومعاناتها من مرض فقدان الشهية الهستيري.

رأى جاسر، الذي كان يعد رسالة الماجستير، في منسية حالة تستحق المتابعة عن كثب، والاستفادة منها في بحثه، وعرض على الأب الاعتناء بها، ورعاية شؤونها حتى تتعافى. استضاف الطبيب الشاب الفتاة في منزله، تحركت أحاسيس الفتاة التي كانت على أعتاب المراهقة، ورأت في طبيبها فتى أحلام ومخلّصاً ايضا من نار الأب وجحيم زوجته: «منسية افتحي عينيك.. ما الذي لا تريدينه أن يخترق عينيك فتغلقيهما عنه؟ إن الحياة جميلة وتستحق أن نحتفظ بكل صورة منها داخلنا.. هيا افتحي عينيك. انظري إلى هذا المكان الجميل، إلى الفاكهة الملونة، مدي يدك والمسيها، المسي هذا الخبز الدافئ الناعم، المسي العصير المثلج المجنون، افتحي عينيك واشعري بذلك، اشعري بالدفء، اشعري بجمال الصورة حولك، اشعري بالسعادة لأنك هنا بالذات. تفتح منسية عينيها ببطْء، الطعام الساخن والألوان البراقة، أمامها يمد جاسر الشوكة بقطعة الجزر تقترب الشوكة وتقترب أسنان جاسر من شفتيها تفتح فمها وتلمس بشفتيها آثار أسنانه تلمسها بلسانه الجاف، وهي تغمض عينيها في نشوة هذه المرة. تسقط الجزرة في فمها دافئة، شهية، تغلق فمها عليها، تشعر بلذة غريبة، لكن معدتها تنقبض، لا تريد أن تتقلص معدتها، تريد أن تبتلع هذه الجزرة بالذات، لابد أن تبتلعها».

مراقبة

وضع جاسر منسية تحت المراقبة، واستطاع أن يكسر صيامها المرضي عن الطعام، إلا أنه بعد حين لاحظ أن الفتاة تتعمد مشاهدة صور الجثث، والعنف. تحركت مشاعر الغيرة في نفس منسية حينما وجدت طبيبها يتحدث مع خطيبته عبر الهاتف، وخلال زيارة تلك الخطيبة إلى جاسر، فوجئ الأخير بأن منسية تهجم عليها، وتحاول إيذاءها. طرد جاسر منسية من بيته، أخذها إلى بيت أبيها وتركها هناك. اضطرت منسية إلى البقاء في المنزل وحدها عقب أن دخل ابوها السجن، ومات فيه. عاشت الفتاة في ظلمة المنزل لسنوات وحيدة، ولا تخرج إلا ليلاً، مكتفية ببعض الطعام. بعد فترة تواصلت مع زميلتها في المدرسة، والتي كانت تسكن في المقابر، حيث كان أبوها يعمل مغسلاً للموتى.

في تلك الفترة بدأت انحرافات منسية الشاذة، من استثارة بالجثث، والبحث بين المقابر عن موتى جدد لممارسة ذلك الفعل، مستعينة في ذلك برفيقتها فتنة، وكانت تدفع رشاوى لحراس المقابر. لم يغب جاسر عن خيال منسية، إذ ظلت تتذكره، وعملت على ان يكون هو نفسه أحد الذين تمارس معهم عاداتها الغريبة، بعد أن تقوم بقتله. جهزت منسية للقاء جاسر، واتفقت مع زميلتها على مساعدتها في إتمام ذلك الأمر. بالفعل تنجح منسية في مد حبال التواصل مع جاسر، ويتعاطف الأخير معها، ويستضيفها من جديد في بيته، ويفاجأ بتطوراتها الجديدة، ومرضها النفسي النادر النيكروفيليا، وأحس بأنه قد وقع في شرك لن يخرج منه، خصوصا بعدما رأى رسومات منسية، والأشعار التي كانت تكتبها في دفتر قديم وتحتفظ به. جاء مشهد النهاية شديد المأساوية، إذ قتلت صديقة منسية جاسر، وبينما تحاول منسية ممارسة أفعالها مع جاسر، كانت صديقتها تجرد محتويات البيت لسرقته، وبعد حين تحاول منسية إيقاظ فارس أحلامها من سباته، لكنه لا يرد عليها، فتجري مسرعة إلى المطبخ، وتحضر سكيناً، وتغرسه في قلبها، لتكتب نهاية لحياتها، أو بالأحرى مأساتها الكبرى.

تويتر