رواية ناصر عراق في القائمة القصيرة لــ «الـــــــــــــــــــــبوكر العربية»

«العاطـل» يتحــــرّر من «الخيبات» بالكتابة

«عاطل» ناصر عراق ثرية بالشخوص والأمكنة والأحداث. من المصدر

أكثر تماساً وتفاعلاً مع عوالم رواية «العاطل»، سيكون القارئ المقيم في الإمارات، إذ تقع الأحداث في مساحة جغرافية يعرفها المغترب في هذا البلد جيداً، وتدور الحكاية في شوارع ومعالم شهيرة ما بين دبي والشارقة، البراحة، سيتي سنتر، الممزر، القصيص، الملا بلازا، شارع الوحدة، أبوشغارة، مطعم دانيال، وغيرها من الأمكنة. أما عن شخوص «العاطل» رواية الكاتب المصري ناصر عراق، فسيشعر قارئ ما بأنه يعرف بعضهم، وليس بعيداً أن تتقاطع سيرته مع واحد منهم، بشكل أو بآخر، مع توالي مسارات الرواية التي وصلت أخيرا إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.

تخطى عنوان «العاطل» مجرد المفارقة، فقسى على بطل الرواية (محمد عبدالقوي الزبال)، تماماً كما قست عليه الحياة، وكذلك والده الذي قهره منذ صغره، وجعله «عاطلاً» بلا فاعلية في اختبارات رجولة باءت جميعها بالفشل، وحيّرت صاحبها، وجعلته مأزوماً طوال العمل. ويتبدى وجه قسوة العنوان في أن محمد بالفعل لم يكن يستحق ذلك اللقب، على الأقل عملياً، إذ هرب الشاب بعد تخرجه في الجامعة من وجه أبيه، ومن سبابه، ونعته الدائم له بالفاشل، ورضي بمهنة لا تتناسب مع مؤهله الجامعي، وقنع بالعمل في مقهى، يقدم طلبات للزبائن، ويعد الشيشة لهم، وظل يبحث عن فرصة أبعد للهرب من وجه أبيه، إلى أن جاءته فرصة العمل في دبي التي تدور فيها معظم أحداث «العاطل» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في 335 صفحة.

تشويق

أعمال

تخرج ناصر عبدالفتاح إبراهيم عراق في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام .1984 عمل في الصحافة الثقافية بمصر، ونشر مقالاته في عدد من المجلات والجرائد العربية، وشارك في تأسيس مجلة دبي الثقافية، وعمل مدير تحرير لها منذ .2004 أصدر العديد من الكتب من بينها «تاريخ الرسم الصحفي في مصر» (2002) الذي فاز بالجائزة الأولى في الدورة الأولى لجائزة أحمد بهاء الدين، و«أزمنة من غبار» (رواية 2006)، و«من فرط الغرام» (رواية 2008)، و«الأخضر والمعطوب» (مقالات 2009) ويعمل حالياً منسقاً ثقافياً وإعلامياً لمؤسسة ندوة الثقافة والعلوم في دبــي.

تحفل حياة محمد الزبال في الغربة بكثير من الأحداث، يتورط في بعضها «العاطل» من دون اختيار، وتعرضها الرواية في قالب مشوق، يرمي السارد طرفاً من قصة ما، ويترك تفصيلها، يجتذب القارئ بحدث مهم فيروي جزءاً منه، ويدع التفاصيل لما بعد، حتى إذا سار القارئ مع الرواية حتى آخرها اكتملت لديه خيوط الحكاية، فمثلاً يقول محمد الزبال إنه صاحب تجارب مخيبة مع سرينا وهند وسوما، يعرج على ذلك في البداية بشكل مقتضب، ولا يروي فضول أحد حتى يشاء هو في صفحات بعيدة عن تلك الإشارة السريعة، ويأتي أيضاً على ذكر شخصية ما، أو حادثة محورية، ويتركهما، ويعود إليهما في فصول تالية.

إلى أدق التفاصيل في حياة محمد الزبال تلج الرواية، تعرّيه بكل ما تحويه الكلمة من معنى، أو بالأحرى، يعرّي محمد ذاته، يسرد سيرته بكل ما فيها من مناطق ضعف، إذ إن الغرض من المكاشفة ـ كما أوضحت حيلة صاحب العمل ناصر عراق في نهاية «العاطل» ـ هو أن يكتب البطل سيرته الذاتية، ويحرّر نفسه بالقلم من العقد النفسية التي خلفها قهر الأب، لكي يستطيع التخلص من خيباته المتكررة أمام أكثر من امرأة، آخرها ما عاناه مع زوجته، إذ استمر «مسلسل الهزائم الذكورية»، ولم يستطع الزبال عبور حاجز القهر، فكان لابد من البحث عن علاج، تمثل في الإفضاء إلى الورقة، لتخليص النفس من كل ما يعتمل في داخلها.

يقول الراوي: «حين تخرجت من كلية التجارة.. لم أجد عملاً بسهولة الأمر الذي كان يعرضني للتقريع اليومي من والدي، والذي كان يصرخ في وجهي قائلاً: الفاشلون فقط هم الذين لا يجدون عملا. كنت أتمزق من داخلي، وأنا أحاول أن أوضح له أن الحكومة رفعت يدها عن تعيين أمثالي في وظائفها، وأن البطالة بين الشباب المتعلم هي عنوان العصر، فينظر إلى باستخفاف وهو يزمجر: هذا كلامك منصور ابن خالتك.. الحيوان الشيوعي. لم أحتمل عنف التوبيخ اليومي ولأني أدرك أني محروم من المواهب المشتعلة أو المهارات الفائقة في أي شيء، لذا لم أحلم سوى بالخروج من هذه الحارة البائسة (بشبرا الخيمة)، والحصول على وظيفة، وفتاة أتزوجها فأرتاح من عذابات جسدي.. وأتخلص من قهر أبي وشتائمه كل ساعة، لذا قبلت العمل في مقهى في وسط البلد، وبالتحديد في حارة متفرعة من شارع الشريفين بالقرب من وزراة الأوقاف (في القاهرة). كنت أتصبب عرقا وأنا أجهز الشيشة للزبائن، أو أقدم لهم الشاي والقهوة والبيبس. 12 ساعة يوميا وأنا أدور بين هذا وذاك، ألبي طلبات فلان، وأنفذ أوامر علان من الزبائن، لأتقاضى آخر الشهر 350 جنيها فقط لا غير بالكاد تكفي مصاريفي اليومية من طعام ومواصلات وخلافه، ولقد ظللت في هذا المقهى ما يقرب من ثلاث سنوات ونصف السنة من العذاب المنظم، حتى انتشلني أخي الأكبر حسن، وقذف بي إلى هنا في دبي قبل ثلاثة أعوام فبدلت حياتي تبديلا».

خيبات

ورغم أن محمد الزبال هو صاحب «الخيبة» الأبرز في «العاطل»، إلا أن بقية شخوص الراوية هم الآخرون محملون بهموم وخيبات أيضاً، لكن من نوع مختلف، وإن بدا حالهم ظاهرياً على ما يرام، فمنصور الشخصية المحورية الثانية في العمل مشغول دوما بالواقع المرّ في مصر، ولم تنسه الوظيفة المرموقة والدخل الثابت والسيارة ذلك الهم العام الذي تركه وراءه في بلده، وبقي المؤرق الأكبر لمنصور في غربته هو ذكرى حبيبته التي غرقت في النيل، زوجته الشابة التي لم تدم الفرحة معها إلا قليلاً.

ترافق شخصية منصور في العمل كاتب السيرة محمد الزبال، فالاثنان أولاد خالة، وارتبطا بصداقة تخطت علاقة القرابة، فتح منصور عيني محمد على كثير من الأمور في الحياة، ويبدو أحياناً مثل نصفه الآخر الذي يكمل نقصه، أو النموذج الذي لم يكنه محمد، واكتفى بأن صادقه، فمنصور مثلا نشأ في بيت يسوده الوئام، أب مثقف يحاور أولاده، ويمنحهم الحرية، ويحرص على تعليمهم. فيما منصور نشأ في بيت مشيد على القهر، لأب متسلط، يشتم الكل، ويتدخل في كل شيء، وتسبب بعنوسة ابنتيه، وظلت هكذا حاله حتى بعد أن ترك عمله ضابطاً، ففر الابن الأكبر إلى الإمارات، ولحق به بعد ذلك الأصغر، رواي حكاية «العاطل» وبطلها محمد الزبال.

يشكل منصور نموذجا أمام ابن خالته، فهو مثال للمثقف، صاحب الرأي والموقف، إذ سجن وهو في الجامعه نتيجة لنشاطاته السياسية، وخرج أقوى مما دخل، وارتبط بفتاة تشبه، ولكنها كانت عروسا للنيل لا له.

منح ناصر عراق الحرية لمحمد الزبال أن يروي الحكاية برؤيته هو، أعطاه ميزة الراوي العليم بكل شيء، رغم أن عالم ذلك «العاطل» بدا صغيرا أحيانا، لأن عينه لم تستطع التطلع إلى أبعد من خطوات، نتيجة عقدته الكبري، التي شوهت نظرته لنماذج عايشها على مدار الرواية، وكما قست عليه الحياة، قسى هو الآخر على بعض شخوص العمل، أصدر أحكاما قطعية على أفراد، ولم يحاول أن يبحث عن الجانب الإنساني فيهم، تجلى ذلك بشكل واضح في تعامله مع بعض الجنسيات الأخرى في مجال العمل خصوصا.

تويتر