في عوالم رواية اللبناني رشيد الضعيف المــــرشّحة لجائزة « البوكر العربية »

«تبليط البحر».. تــاريخ ومهاجرون وسارقو جثث

الرواية تأخذ القارئ إلى عالم بيروتي قديم. الإمارات اليوم

يبدو أن التاريخ لا يخذل روائياً يلجأ إليه، لينسج من أخباره عوالم قصصية، ومن حوادثه المقتضبة حكايات طويلة، تختلط فيها الحقيقة بالخيال، ويمتزج فيها الجانب الوثائقي بمغايره الفني، كما صنع الكاتب اللبناني رشيد الضعيف، الذي لجأ إلى رحاب التاريخ، وتحديدا النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متخذا من تلك الفترة لحظة ميلاد لأبطال روايته الجديدة «تبليط البحر»، التي يستمر مداها الزمني إلى مشارف القرن العشرين، ساردا حكاية شخص قطع رحلة دائرية طويلة، كانت بيروت فيها نقطة الانطلاق لبطل حلم بنهضة وطنه، وكانت بيروت محطة العودة أيضا لذلك البطل الذي رجع جثة هامدة في تابوت، ينتهي مآلها إلى درس تشريح لطلبة الطب.

يشكل العام 1860 عاما محوريا في الرواية، فهو تاريخ حرب جبل لبنان وما شهدته من مجازر، تبعتها هجرات داخل الوطن وخارجه، إذ غيرت أحداث تلك الفترة التي تمثل مساحة جاذبة لكثير من الروائيين، وليس لرشيد الضعيف فقط، غيرت وجه الشام، وأتت ببوارج حربية وسفن إلى المنطقة، ونفت كثيرين وشردتهم عن بلدهم بلا عودة.

للمؤلف

للروائي والشاعر اللبناني رشيد الضعيف مجموعة من الأعمال الشعرية والروائية، من بينها «حين حل السيف على الصيف» شعر عام ،1979 و«لا شيء يفوق الوصف» شعر ،1980 و«فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم» رواية ،1986 و«أهل الظل» رواية ،1987 و«تقنيات البؤس» رواية ،1989 و«غفلة التراب» رواية ،1991 و«أي ثلج يهبط بسلام»، شعر ،1993 و«عزيزي السيد كواباتا» رواية ،1995 و«ليرننغ إنجليش» رواية ،1998 و«إنسي السيارة» رواية ،2002 و«أوكي مع السلامة» رواية .2008 وغيرها.

 رموز النهضة

في «تبليط البحر» الصادرة عن دار رياض الريس، والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية للرواية، سيجد القارئ أسماء عدة لرموز خلدهم التاريخ مفكرين وكتاباً وروائيين، لعل من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، وجرجي حبيب زيدان، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وغيرهم، يوظف الكاتب طرفا من حياة الأول، بينما يدخل الثاني في صلب الحكاية، عبر نسج صداقة عميقة تجمع بين بطل «تبليط البحر» (فارس)، وبين جرجي زيدان، صاحب «الهلال» ورائد الرواية التاريخية في الأدب العربي، غير أن رشيد الضعيف لن يشفي غليل القارئ، ولن يرشده إلى الكتب التي رجع إليها، ولا بالوثائق التي بنى عليها روايته، حتى يستطيع من يشاء الاستعانة بالأصل، ومقارنة المتخيل بالحقيقي، أو حتى حظ التاريخ من الرواية ما مقداره، وعلى القارئ خدمة نفسه بنفسه إن اراد أن يشبع نهمه المعرفي.

يقول راوي «تبليط البحر» التي تقع في 210 صفحات: «وهكذا اختلفت درب فارس هاشم عن درب رفيق العمر جرجي زيدان. لكنهما قررا السفر معاً برفقة زميلهما أمين فليحان في اليوم ذاته، وفي الباخرة ذاتها إلى الإسكندرية على أن يمضوا فيها بعض الوقت، ومن ثم يتابع فارس طريقه إلى نيويورك.. وجد هؤلاء الجبليون البحر هائلا ممتدا، ورأوا أن ما من أحد في الكون يمكن أن (يبلطه)، ومن هنا جاءت عبارة (بلط البحر) بمعنى أنك عاجز عن التحدي. الآتون من الأرياف استنبطوا إذن عبارة (بلط البحر) هذا مما استنتجه جرجي زيدان. وقادتهم هذه الملاحظة إلى نقاش عميق عن حاضر اللغة العربية ومستقبلها، وعبروا جميعا عن ثقتهم بأن اللغة العربية قادرة على تخطي كسلها الذي كان يدوم منذ خمسة قرون بما أن شعوبها تنهض، وكثيرا من أهلها يجوبون البحار ويرودون الأرض ويكتنزون من حضارات الشعوب المتقدمة، ويجنون المال والخبرة في جميع الميادين، ويعودون إلى بلدانهم لتغتني بهذه الكنوز.. أوحت عبارة (بلط البحر) لطلاب الطب الثلاثة بهذا النقاش اللغوي. ولم يكن بمستغرب لأن معرفة الأطباء باللغة والأدب في ذلك الوقت كانت جزءا من تخصصهم. وكان الثلاثة على علم بأن المعلم بطرس البستاني ناقشوا هذه المواضيع طويلا وبالتفصيل مع الشاعر والنهضوي ناصيف اليازجي، ومع المرسل الأميركي إلاي سميث». وهكذا تتوالى أسماء أعلام معروفين وآخرين ربما يكونون مجهولين، تأتي عليهم الرواية، توظف أسماءهم بشكل سريع أحيانا، وفي أحيان أخرى تروي طرفاً من سيرتهم.

حكاية

هاجر والد بطل الحكاية مع من هاجروا من جبل لبنان، إثر الحرب الأهلية، استقر منصور هاشم في بيروت التي صارت ملاذاً للفارين من المجازر والاضطهاد الطائفي، وكذلك ميناء للهجرة إلى بلاد الشرق والغرب. في العام نفسه تزوج الرجل وأنجب بطل الرواية فارس، حلم أن يكون ولده متعلما ومثقفا بعدما رأى المبشرين الإنجليز والأميركيين، وما يحملونه من معرفة، وتمنى أن يصبح ولده طبيبا يداوي المرضى.

ترك الوالد الأسرة وهاجر إلى أميركا على أمل العودة بثروة تتيح له فتح «مصلحة» في بيروت، وانقطعت أخباره لسنوات. وبينما كانت الأم تجاهد لترعى الأسرة، كان فارس يتعلم في إحدى المدارس ليحقق حلم الوالد، وزامله في تلك الفترة جرجي زيدان الذي كان يساعد والده بعد انتهاء المدرسة في مطعم بقلب بيروت، انطلق الصديقان معا يتعرفان الى المدينة وحاراتها وناسها الآتين من أنحاء مختلفة، وتصادق الصبيان حتى في مغامرات المرحلة العمرية، كما تخيل راوي الحكاية: «كان جرجي مسحورا بحرية صديقه فارس وبجرأته، وكان لذلك يرافقه من وقت لآخر في التجوال، لكن دون أن يسمح لهذه الحالة بأن تستغرقه. وفي تلك المرحلة مارسا العادة السرية كثيراً حتى أضعفت جسميهما». ولم تكن تلك «العادة» هي مغامرات الصديقين الأولى والأخيرة، إذ كانت لهما ـ حسب الراوي ـ مغامرات أكثر جسارة، ففارس وجرجي بعد أن جمعتهما كلية الطب الأميركية في بيروت، سرقا سوياً جثثاً وهياكل عظمية من المقابر، فالكلية كانت تعاني نقصا في الجثث، ولابد من تعويض ذلك، دونما احترام لحق من ماتوا، أو رغبتهم في الرقد بسلام، طالما أن هناك رغبات للحالمين بالعلم واستكمال دروس التشريح، ليسهموا في نهضة وطنهم، ومداواة مرضاه.

انقطع الشابان عن دراسة الطب إثر أزمة عصفت بهما، لكنهما عزما على استكمال الطريق، وتحصيل الشهادة الغالية، وجد فارس في أميركا، مهجر الأب، حلاً للوصول إلى حلمه، بينما يمم جرجي وجهه صوب مصر، وتحديدا طب القصر العيني، أقدم كلية لدراسة الطب في المنطقة.

بعدها يسقط ـ إلا قليلا ـ جرجي زيدان من الحكاية، وتنقطع مغامرات الصديقين معا، ويبقى الحبل الواصل بينهما، بضعة مكاتبات ورسائل لتلقي الضوء على مآل جرجي تحديدا، ومصيره الذي اختلف بعد الإقامة بمصر، إذ ترك الطب، ووجد في الأدب ذاته، ليؤسس بعدها مجلة الهلال العريقة، ويكتب رواياته ودراساته المختلفة التي أثرت المكتبة العربية.

فارس بـ «كشة»

أما رحلة فارس فطالت وتشعبت، فبعد أن استقر في نيويورك، والتقى والده، سعى للالتحاق بأي كلية للطب، لكنه فوجئ بالتكلفة العالية لذلك، كان لا مناص من العمل بائعاً جوالاً مثل آلاف اللبنانيين والسوريين من المهاجرين الأوائل إلى أميركا، وحمل «كشة صغيرة» بها أغراض عدة، وبضائع منزلية ونسائية مختلفة، وساح في ولايات أميركا المختلفة، كان يشعر بالحزن الشديد حينما يمر على جامعة، أو يرى طلبة يتأبطون كتبهم، ويحملون حقائب الدراسة، لكنه بعد حين جمع مبلغا، وأفلح في الانتساب إلى كلية للطب. يمر فارس بتجربة حب مع شابة أميركية، يصطدم بفارق الثقافتين، وعنصرية تلك الأسرة التي تفرق بين الحبيبين، ويسجن فارس في قضية ملفقة لمدة شهر، ليفصل بعدها من الكلية، لكنه يعاود الكرة، وينتسب لجامعة أخرى، ويتخرج طبيبا كما حلم. بعدها يواجه إخفاقاً في المجال العملي، ما يلبث أن يتحول إلى نجاحات، ليلتحق بعد ذلك بالجيش الأميركي، ليطبب الجنود في الحرب الأميركية الإسبانية في كوبا، عام 1898 ويلاقي كثيرا من السوريين واللبنانيين الذين يخدمون تحت راية العلم الأميركي، بعضهم يحب ذلك الوطن حقيقة، وبعضهم يتاجر بذلك.

يصادف فارس ساوا الصينية، وتجمع بينهما قصة حب تنتهي بالزواج، وبعد شهرة فارس طبيباً مميزاً، تصل أخباره إلى الوطن، ويخطط للعودة وخدمة بلاده، لكنه يموت خلال رحلة العودة، فتجهز له ساوا تابوتا، والمفارقة أن التابوت يسرق في ميناء بيروت، لتنتهي جثة الطبيب، الذي سرق جثثا عدة، إلى درس تشريحي، ولم تستطع إنقاذه صرخات ساوا ولا وساطة شرطي كبير كان صديقا لفارس الراحل، وشاهداً على سرقات الجثث القديمة والجديدة أيضا.

تفتح الرواية مسارات عدة أمام قارئها، فتأخذه إلى ذلك العالم البيروتي القديم، وتضعه أمام حوادث كبيرة، وأخرى صغيرة، إذ تصور آمال الناس وأحلامهم وحتى صبواتهم في تلك الفترة من الزمن، تعيد المتلقي إلى الوراء زمانا ومكانا، وتجعل حواسه الخمس مفتوحة على ذلك التاريخ، ليطالع مشاهد قطعاً غابت عن المؤرخين الذين شغلتهم الأحداث الكبرى، ونسوا المهمشين والحالمين بالتغيير والوطن الخالي من التعصب.

تويتر