ودّع الصحافة والأدب والفلسفة عن 87 عامـــاً

أنيس منصور.. الـرحّال في «بلاد الله» والوجودية

صورة

ودّع الكاتب أنيس منصور الصحافة والأدب والفلسفة والأعمدة اليومية، وقراء متعصبين له، وآخرين متعصبين ضده، وغاب يوم الجمعة الماضي، بعد أن شغلت آراؤه الناس، وملأت مؤلفاته التي تخطت المائة رفوف المكتبات، وتصدرت قوائم الأكثر توزيعا.. استراح المبدع المصري من الترحال «حول العالم في 200 يوم»، والتماس نار المعرفة من «بلاد الله» الواسعة، أو حتى من فلسفة «الوجودية»، ووُري الثرى يوم السبت الماضي، عن 87 عاما، بعد مرض ربما لم يشعر به محبوه، ممن كانوا يطالعون أعمدته اليومية، وإطلالاته في غير جريدة عربية.

حيَر قلم أنيس منصور كثيرين معه، اعترف بحبه وكرهه في آن واحد للأديب الراحل عباس محمود العقاد، اعتبره قدوة وأبا وساحرا وعدوا، عشق أنيس منصور «عدو المرأة» أيقونة الجمال مارلين مونرو، جمع كل ما كتب عنها، اقتنى كتبا تتحدث عن الشقراء الحسناء، أحب الكون لما قابلها، وبكى طويلاً حينما وصله نبأ انتحار «حبيبته» الهوليوودية.

ترك أنيس منصور الباحث النابه كرسي المعلم الأكاديمي، وحمل عصا الترحال بعد أن مسه الشغف بصاحبة الجلالة، فطلب الحكمة من بوابة أدب الرحلات والسعي في مناكب الأرض، طاف جهات المعمورة الأربع، قابل أناسا من الشرق والغرب في سفراته: مشاهير وصعاليك، وكان أول صحافي في العالم يحاور الدلاي لاما، ويجالس كتابا لا يفتحون بيوتهم ولا قلوبهم لأحد، تذوق أطعمة وفلسفة ومشاهد غريبة، وسطر كل ذلك في أسفار شهيرة، ربما أكثرها صيتا كتاب «حول العالم في 200 يوم» الذي طبع مرات كثيرة منذ صدوره في مطلع ستينات القرن الماضي، وكان سببا في شهرة منصور، وحصده جائزة الدولة التشجيعية في مصر.

مؤلّفات

تنوعت مؤلفات أنيس منصور الذي ولد عام 1924 بين الدراسات وأدب الرحلات والقصص القصيرة، ومن بينها «الذين هبطوا من السماء»، «الذين عادوا إلى السماء»، «مع الآخرين»، «قالوا»، «طريق العذاب»، «من نفسي»، «كرسي على الشمال»، «ساعات بلا عقارب»، «مدرسة الحب»، «وداعا أيها الملل»، «يا من كنت حبيبي»، «اليمن ذلك المجهول»، «لعنة الفراعنة»، «غريب في بلاد غريبة»، «هي وغيرها»، «عزيزي فلان»، «نحن أولاد الغجر»، وله كثير من الترجمات، إذ كان الراحل يتقن سبع لغات، وكان له قصب السبق في إلقاء الضوء على بعض الأدباء العالميين، وتعريف القارئ العربي بهم.

حيرة وحب

أصاب الراحل قراءه بحيرة عندما حدثهم ـ وهو «الفيلسوف الوجودي» ـ عن مخلوقات أكثر ذكاء من الإنسان تعيش في كواكب أخرى، هبطت إلى كوكبنا، وتركت آثارها في أماكن عدة، في بغداد وبعلبك وجنوب فرنسا، ثم صعدت إلى عوالمها مرة أخرى. وحكى عن مشاركته في جلسات أرواح استدعت أشباح شخوص شبعوا موتا منذ قرون، وخصص أحد مؤلفاته لتأكيد «لعنة الفراعنة» التي تطارد من يحاول هتك أسرار، وكشف طلاسم أولئك العظام.

لكن أكثر ما حيّر قراء أنيس منصور، هو مواقفه السياسية، إذ بارك صاحب «عبدالناصر المفترى عليه والمفتري علينا» جميع خطوات الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وكان مستشاره الخاص، وموضع سره، ومسطر حوارات مطولة معه، وكان في طليعة من رأوا في التطبيع مع اسرائيل باباً للسلام، وتصفية للنزاع العربي الصهيوني.

التزم منصور الحياد في كثير من المواقف، وابتعد عن القضايا الملتهبة، وآثر الكتابة في العموميات، وسرد بعض تجاربه الخاصة والعامة، القديمة غالباً، انتظر منه البعض رأيا أو مشورة في المرحلة الأخيرة، وما شهدته من تغييرات، لكنه ظل على حاله، ولم يكشف عن رأي، ربما بسبب خريف العمر، وما يتطلبه من استراحات ما قبل الرحيل، أو حتى على الأقل إيثار السلامة، والاكتفاء بما في رصيده من إشكاليات.

تبقى مساحة الاتفاق الأوسع على أنيس منصور هي في سلاسة الأسلوب، ورشاقة القلم، وغزارة النتاج، وجرابات الحكايات التي لم تنفد حتى ودع الراحل الكلمة، أخيرا، وذلك التدفق العفوي الذي تتسم به، فكتاباته فيها من كل فن طرف، ومن كل بستان زهرة، كما يقولون، تمزج بين الأدب والصحافة والفلسفة، تقرب أفكاراً عصية إلى القارئ بشكل تفرّد به أنيس منصور الذي نقل مذاهب ومصطلحات فكرية عويصة إلى العربية بسلاسة وعذوبة، تحدث في قضايا فكرية شائكة بصورة مبسطة، تدل على بصمة صاحبها الخاصة، وتمكنه من أدواته، مزج قلمه بين رصانة فكر العقاد وكبار الفلاسفة الغربيين، ورشاقة أسلوب الصحافيين الرواد، أمثال محمد التابعي وعلي ومصطفى أمين.

بحث عن الجذور

سطر صاحب «مواقف» جوانب من سيرة حياته في غير كتاب، نقب كثيرا في طفولته البعيدة، باحثا عن الجذور والذات، حضر أبوه وأمه وتعلقه بهما في تلك السيرة، وبان مبكرا أن ذلك الطفل مختلف عن أقرانه، ألح في الأسئلة والقراءة، ورافق العزلة والحساسية والخجل والسرحان الطويل.

وفي بلدة تستريح على إحدى ذراعي نيل مصر قبل مصبه، ولد وعاش أنيس محمد منصور سنواته الأولى، إذ شهدت مدينة المنصورة صباه، وجزءا من شبابه، ولد لأب يعمل مفتشاً على أراضٍ زراعية لأحد الباشوات الأثرياء. دخل أنيس الكتَاب صغيرا، فختم القرآن في سن السابعة، وحفظ نهج البردة، ودلائل الخيرات، وأشعارا كثيرة وهو في سن مبكرة، كما روى في كتابه «عاشوا في حياتي» الذي كشف فيه الكثير عن طفولته وشبابه.

شعر الصبي بتميزه، ووجاهة ما يصنع، سيما أن والده كان يشجعه، اتهمه يوما مدرس الإنشاء بأنه سارق لأحد الموضوعات، عندما وجد طريقة الكتابة أكبر من عمر الصبي، تعمق شعور الخوف والميل إلى العزلة عندما أحس أنه مختلف عن رفاق الكتَاب والمدرسة، فتعلق بالصفحات وهو صغير، أتى على مكتبة البلدية في المنصورة وهو في المرحلة الثانوية، وأخذ رسالة بذلك من أمين المكتبة، انطلق بعدها إلى المكتبات الخاصة، اقتنى روايات الجيب المترجمة، واشترى عربة كاملة منها، وظل معتكفاً عليها.

تفوّق أنيس منصور في التعليم، وكان ترتيبه دوما الأول على مستوى مصر، في المرحلتين الابتدائية والتوجيهية (الثانوية)، وحينما دخل قسم الفلسفة في كلية الآداب في القاهرة، كان الأول أيضا، وحاز تقدير ممتاز، وعين معيداً في الجامعة، لكن كان بانتظاره شأن آخر، إذ عمل إلى جانب الجامعة في بعض المجلات والجرائد المغمورة، فنشر قصصا مترجمة، وأخرى من تأليفه، دون توقيع، وانضم إلى «أخبار اليوم»، المؤسسة الصحافية العريقة، ليترك بعدها الجامعة، وقسم الفلسفة، ويلج ديوان صاحبة الجلالة، ويصير أحد أساطينه في مصر والعالم العربي.

اشتهر أنيس منصور بأنه أحد دراويش عباس العقاد، بشكل مركب، جمع في إهابه ما بين الإكبار والحب والتمرد، فمنصور الصبي لم يكن يشتري مجلة الرسالة إلا بعد أن يتأكد أن فيها مقالة لصاحب «العبقريات»، وحينما حلّ بالقاهرة ليدخل جامعتها، اجتذبته جامعة ثانية هي صالون العقاد الأدبي الذي كان منصور أحد رواده، معتبرا الجامعة الثانية أقرب وأعمق وأحب إلى نفسه.

رأى أنيس الشاب في العقاد قدوة وأبا وساحرا، عشقه، وحاول أن ينتزع منه اعترافا بموهبته، وحينما رفض الأديب الكبير هاجمه أنيس، ونعته في إحدى المقالات بـ«عباس محمود العضاض». لم يكن الراحل ليفوت فرصة صالون العقاد بكل ما فيه من ذكريات وحوارات ومناكفات «ففي صالون العقاد احتشدت كل العقول والأذواق والضمائر، وكل الحديد والنار والقلق والعذاب والأبهة والكبرياء، وكل المعارك بين المبادئ والقيم»، فسجل أنيس كل ذلك في واحد من أبرز كتبه، إن لم يكن أبرزها وأقربها إلى قلوب البعض، وهو «في صالون العقاد كانت لنا أيام» الذي صدرت طبعته الأولى في عام .1983

تويتر