تكريم الحاي استلهم ذاكرة المسرح الإماراتي و«تريلا» تصدرت «سباق النصوص»

«قرموشة».. وصال بين الأصــــالة والمعاصرة

«قرموشة» قدمت بلال عبدالله بمستوى فني مميز وشهدت عــــــودة بدرية أحمد إلى الخشبة. تصوير: مصطفى قاسمي

دفع جدول فعاليات مهرجان أيام الشارقة المسرحية في ليلتها الثامنة إلى ليلة شاعرية بامتياز، ليس من منطلق جوهر القصة الدرامية لمسرحية «قرموشة» التي أنتجها مسرح دبي الأهلي على نحو يسابق في الزمن من أجل المشاركة في «الأيام» فقط، بل أيضاً حملت لغة وحساً شاعرياً للمؤلف عبدالله صالح فقط، بل أيضاً، بسبب لغة وأجواء شاعرية زخمت بها ندوة الشخصية المحلية المكرمة هذا العام الفنان ناجي الحاي، وشهادات رفقاء خشبة، حملت كلماتهم عبارات تسعى إلى اختزال تجربة الحاي، الذي رأوه «شعر المسرح الإماراتي»، فيما شكل الكشف عن نتيجة مسابقة الشارقة للتأليف المسرحي ألقاً آخر لذلك اليوم، رغم إعلانها استمرار تصدر الفنان إسماعيل عبدالله، الذي يشارك ضمن مهرجان أيام الشارقة المسرحية بثلاثة نصوص كاملة، لمجال التأليف المسرحي بالإمارات، حيث حل نصه «التريلا» في صدارة النصوص الفائزة.

بن غريب: الهوية تحضّر

 استقبل رئيس مجلس إدارة مسرح دبي الشعبي يوسف بن غريب بتحفظ وغضب شديدين مداخلة د. صالح هويدي التي قال فيها إن «الحديث عن الهوية يرتبط دائماً بالمجتمعات المتخلفة»، مبرراً بأن «الغرب المتحضر لا ينشغل بقضية الهوية أصلاً»، حيث قال بن غريب: «الغرب لا ينشغل بالأساس بهذه التفاصيل، لأنه يفتقر إليها، فضلاً عن أن منظومة القيم والتقاليد المجتمعية التي يحملها الشرقي تشكل جزءاً أصيلاً لا ينفصم عن واقعه، ومن ثم هي لا تعتبر مجرد إحالات مفرغة للماضي، أو دعوة للعيش في ظلاله».

وفنياً قال بن غريب إن إدارة مسرح دبي الأهلي اتخذت خياراً صعباً بالمشاركة في «الأيام» رغم عدم الاستعداد المبكر للعرض، مشيراً إلى أن الانسجام بين أسرة «قرموشة» سواء في ما يتعلق بثلاثية الممثلين، أو ثنائية المخرج والمؤلف، وأيضاً الفنيين وإرادتهم صمدت ضد واقع الغياب عن هذا المهرجان الذي كاد يفرض نفسه، متوقعاً أن يكون لـ«قرموشة» حضوراً مهماً في محافل كثيرة، خصوصاً على خشبات مسارح الجامعات المحلية، التي عادت من خلال مهرجان المسرح الجامعي إلى ألق «أبو الفنون».

وأشار بن غريب إلى أن عودة الفنانة بدرية أحمد من خلال هذا العمل لن تكون مجرد عودة عابرة تتبعها قطيعة أخرى، متوقعاً أن يتكرر التعاون بين مختلف أعضاء أسرة «قرموشة» في أعمال أخرى ينتجها «دبي الأهلي».

 الأنصاري: أنا المخرج

 انزعج الفنان أحمد الأنصاري من أسئلة حملها بعض المتداخلين في الندوة التطبيقية، رغم أن السياق العام للندوة حمل إشادة بـ«قرموشة»، لكنه واجه اسئلة من قبيل «لماذا ظل المندوس الذي في أقصى يمين الخشبة مغلقاً؟»، و«لماذا اخترت أن يكون معظم الحدث في الجانب الأيمن من الخشبة؟»، بإجابة حازمة: أنا المخرج، ومن حقي أن أوظف أدواتي على النحو الذي أرتأيه بناء على رؤيتي الخاصة، ولا يمكن أن يسائلني أحد بأفكار أو خواطر ذاتية تعود له، وما يجب أن أسأل عنه هو الرؤية النهائية للعمل، وليس التفاصيل». وأضاف الأنصاري باختزال: «العمل في مجملة تنهيدة من الابنة (منيرة)، والصندوق إذا قمت بفتحه فسأقضي على أهم شيء في العمل، وأكثره قيمة، والفضاء الأسود ذكرى قاتلة، والبرقع محيل إلى قيم الحياء والجمال، وليس البرقع بمفهومه الوظيفي الحالي، والخلاصة أن لا شيء ملموس في العمل خصوصاً في ما يتعلق بالذكوري والأنثوي».رغم ذلك لم تعدم المداخلات من اسئلة خرجت عن عموميات الندوة التطبيقية الخاصة بـ«قرموشة» حمل أحدها مدير الندوة ياسين النصير الذي تساءل: «لماذا يظهر الممثلون في المسرح الإماراتي غالباً حفاة؟».

لا مكان لقدم سواء في ما يتعلق بمقاعد مسرح الشارقة للفنون، الذي استضاف عرض «قرموشة» أو بين الصفوف على الأرض، صورة وإن بدت متكررة ، إلا أنها وصلت قبيل هذا العرض تحديداً إلى ذروتها، بل إن الملمح المهم هو أن معظم الحضور هم من الشباب الذين جاءوا مدفوعين بأكثر من رغبة، إحداها الاستمتاع بعرض كوميدي، فضلاً عن غرابة مسمى العمل الذي يشير إلى أحد أشهر أنواع الصقور المرتبطة بالبيئة الإماراتية، لكنه أيضاً أحد أسماء الأعلام القديمة التي ارتبطت بالمرأة الإماراتية، ما يعني أن اسم المسرحية في حد ذاته بمثابة لغز يدفع إلى اكتشافه.

العمل الذي يجمع مبدئياً بين رفيقي خشبة احترفا العمل الثنائي على اختلاف موقعه بالنسبة لكليهما بين تأليف وإخراج وتمثيل، وهما عبدالله صالح وأحمد الأنصاري، اعتمد على ثلاثة ممثلين ينبئ اختيارهم بدقة وعناية أيضاً، فعودة الفنانة بدرية أحمد، التي جسدت دور المرأة العجوز «قرموشة» كان من دون شك اختيار ذكي في إطار نظرية الترقب والتشويق الجاذبة للجماهير، فيما يظل الفنان بلال عبدالله أحد أكثر الفنانين الذين يمثلون حلاً وسطاً بين المشاهدين على اختلاف شرائحهم العمرية، في الوقت الذي تؤشر سيرة الفنانة الشابة بدور إلى أن أدائها يشكل غالباً ورقة رابحة في معظم المسرحيات التي تشارك فيها، خصوصاً في ما يتعلق بمهرجان الشارقة المسرحي، الذي في جعبتها عدد من أهم جوائزه في ما يتعلق بالتمثيل، فضلاً عن أن مشاركة بدور في دور «منيرة» ابنة قرموشة جعل لأول مرة الخشبة تميل لمصلحة الأدوار النسائية على مدار عروض المهرجان باستحواذ فنانتين على دورين من مجمل ثلاثة أدوار، ليبقى دور «بو حناو» لبلال عبدالله الحضور الوحيد للممثلين.

تلك المقدمات جميعها دفعت باتجاه أجواء نفسية تترقب عملاً يليق بمشاركته ضمن المسابقة الرسمية لـ«الأيام»، ومع انطلاقة الأداء وجد المشاهد نفسه في سياق تواصل مع زمان ومكان لا يحيلان إلى الزمن الماضي بقدر ما تحيل إليه تلك المرأة العجوز «قرموشة» التي تتحدث دائماً مع ابنتها «منيرة» عن «زمان أول» لتفاجئها الأخيرة دائماً بأن «الزمان تغير، ومعظم من تتحدث عنهن قد ماتوا»، فيما يشكل «برقع» ترنديده قرموشة دلالة محيلة إلى قيم الماضي التي لاتزال تتمسك بها المرأة في زمن قالت عنه الابنة أبرز سماته أن «الوجوة فيه صارت أقنعة».

حديث غزل من عجوز لا يبدو رغم ذلك متصابياً، يوائم بين رعشة جسد نحيل، ورغبة قلب نابض ومقبل على الحياة، لا ينفك عن توجيه غزله لقرموشة، التي لا تنفك عن توبيخه دائماً بمشهد أقرب إلى تجسيد المقولة «يتمنعن وهن الراغبات»، في مؤشرات إلى أن الأصالة لا يعني الاحتفاء بها الانعزال تماماً عن الحياة التي يمثلها عنها تلك العلاقة العاطفية التي لم تكتمل بينها وبين «بوحناو»، الذي كان يهددها أحياناً بالطلاق فتذكره أنها ليست امرأته بالأساس، في الوقت الذي يمثل تواصل قرموشة مع ابنتها منيرة تواصلاً مثمراً تبلور في شخصية منيرة نفسها التي تجيب عن سؤال لقرموشة بسر غياب البرقع عن أزيائها بأنها ترتدي العباءة والشيلة ولباساً يمثل منتهى الحشمة رغم غياب «البرقع»، في الوقت الذي تبدو قرموشة تتهيأ بفستان أخضر بمساعدة ابنتها لمراسم حفل زفاف لم يتم.

لم تحمل المسرحية ذروة الأزمة تماماً بالمعنى الحرفي لدلالة المصطلح، بل اعتمدت على سياق أقرب إلى اللغة الشاعرية، وكشف الخلجات والتفاصيل النفسية للشخوص، بعيداً عن تقنية المونولوج الداخلي، أو حتى السرد، بل كان الحوار المسرحي المنحوت بعناية شديدة هو أداة هذا الكشف، وبناء عليه كان المشاهد دائماً شديد الإيجابية في إكمال السياق الذي ترمي إليه تطورات الأحداث دائماً، وهو ما جعل العمل يقترب في صيغة أخرى أيضاً من نشوة القصيدة التي يصل إليها المتلقي كلما اقترب بدرجة ما من تفجير معاني أبياتها.

في هذا السياق ظل صندوق محكم الإغلاق هو «المندوس» بمثابة قطعة الديكور الوحيدة التي شغلت فضاء السينوغرافيا على الخشبة، فيما كان الأفق شديد الإعتام من خلال خلفية وظلال سوداء، تغلب على إشكاليتها المخرج بمؤثرات ضوئية عمودية شكلت أيضاً دلالات مهمة في هذا الجدل بين ثنائية الأصالة والمعاصرة، على نحو يقفز بأسئلة حول المستقبل الذي يبدو غير مرئي عبر هذا الأفق المظلل، ليظل الماضي في هذا الإطار غير مكتشف تماماً، مثل هذا المندوس الذي لم يتم استخدامه سوى خلفية دالة للأحداث، وموضعاً يتكئ عليه الشخوص، خصوصاً منيرة التي تمثل عنصر الشباب، اثناء أداء أدوارهم على المسرح.

من ناحية أخرى كشفت لجنة تحكيم جائزة الشارقة للتأليف المسرحي لعام 2011 عن نتائج المسابقة التي سيتم تسليم جوائزها في الحفل الختامي لـ«الأيام»، حيث جاءت في المركز الأول مسرحية «التريـــلا»أ للمؤلف إسماعيل عبدالله، وفي المركز الثانيأ مسرحية «لعبة البداية» للمؤلف محسن سليمان.

وفي المركز الثالث مسرحية «طوفـان» للمؤلف حميد فارس حميد.

فيما نوهت اللجنة بالمسرحيات التالية، وأثنت على كتابها لأنها مسرحيات تتقارب في مستوياتها، وفيها كم لا بأس به من التكامل الفني والدرامي، لذا توصي بمنحها جوائز تقديرية، وهي: مسرحية «شهيد التيـن» للمؤلف عبدالله صالح، ومسرحية «الطيـــن» للمؤلف محمد صالح، ومسرحية «حديث المساء» للمؤلف صالح كرامة.

الشخصية المحلية المكرمة الفنان ناجي الحاي، من جانبه لم يتطرق في كلمته إلى كيفية ارتباطه بالمسرح، او سيرته الفنية، بقدر ما توقف عند محطات إنسانية واجتماعية شكلت وجدانه، وأبرزها مرحلة الطفولة، بل حتى مرحلة المهد الذي تحدث عنها بحنينية، مشيراً إلى أن والديه كانا يعتبران اسمه «ناجي» مجسداً لمعاناة حقيقية وصلا إلى فقدان الأمل في حياته وهو لم يتجاوز عمره عاماً واحداً عندما كان رضيعاً مطارداً في كل لحظة بشبح الموت، لكثرة الأمراض التي تكالبت عليه دون أن يكون لها علاج معروف، ما جعل اللجوء إلى الطب الشعبي في منطقة الجزيرة الحمراء آخر الحلول التي نجحت بالفعل.

وتحدث الحاي عن اصطحاب والده له في رحلته اليومية لبيع السمك، من منزله في منطقة عيال ناصر، إلى سوق السمك بالشندغة يومياً في رحلة يقومان بها سيراً على الأقدام منذ الثالثة قبل الفجر، وايضاً دور المكتبة العامة في دبي والدور الحاضن الذي لعبته أمينة مكتبتها في ذلك الوقت لاجتذاب الأطفال وتحبيبهم في القراءة، واصفاً إياها بأنها كانت أمينة على عقول النشء قبل أن تكون أمينة على الكتب الصماء، ولم تكن تشغل نفسها برص وتصنيف أرفف الكتب، بقدر ما كانت مشغولة بتغذية العقول الغضة علماً ومعرفة وأدباً. شهادات الممثلين ورفقاء الدرب كانت مؤثرة أيضاً وحملت كلمة رئيس جمعية المسرحيين إسماعيل عبدالله شجناً خاصاً رفض عبرها اختزال وصفه بما قيل عنه إنه غروتوفسكي المسرح الإماراتي. قبل أن يقول بصيغة تقريرية «ناجي الحاي شاعر المسرح الإماراتي، ومهندس النص المسرحي».

تويتر