المفكر المصري يروي فصولها في «ماذا علمتني الحياة» و«رحيق العمر»

سيرة جلال أمين.. أرشيف ذاكرة مشاغبة

صدق السيرة جرّ متاعب على صاحبها. أرشيفية

منحازاً للصدق الجارح، وما قد يسبّبه من ألم، نبش الكاتب جلال أمين أرشيف ذكرياته، فروى في كتابيه «ماذا علمتني الحياة»، و«رحيق العمر»، سيرته الذاتية، بصراحة رآها البعض صادمة حيناً، و«فضائحية» أحياناً أخرى، يستحق صاحبها «الشنق في ميدان عام»، إذ كيف يتسنّى لرجل «شرقي» أن يحكي قصة حب كانت بطلتها أمه، وأن يفشي أسراراً عائلية، وكيف يمس أحد بسوء مكانة أديب رائد كأحمد أمين، صاحب الموسوعات الإسلامية «فجر، ضحى، وظهر الإسلام»، حتى ولو كان ذلك الراوي هو ولده، ومن تربى على عينه.

الانتقادات التي وجهت لـ«ماذا علمتني الحياة» الصادر عام ،2007 من الأقربين في المحيط الأسري، ومن قراء أيضاً، لم تسكت قلم جلال أمين، بل دفعته إلى البحث في تجاويف الذاكرة عن فصول منسية، وأحداث لم يلتف إليها، ليستــكمـل حكاياته، ويلقي الضوء على جوانب حياتية جديدة لم يتطرق إليها المفكر المصري، وذلك في الجزء الثاني من السيرة في كتاب «رحيق العمر» الذي صدر العام الماضي.

لم تشغل سيرة جلال أمين نفسها بالبحث عن شكل سردي معين تنطلق منه، أو وصف متأنّق يمهّد لكل حدث من أحداثها، إذ آثر صاحب السيرة، استاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، أن يعبّر عن أفكاره بأقصر الطرق وأوضحها، من دون الاعتماد على المبالغة، أو اللجوء إلى الأخيلة، ومع ذلك يجد القارئ ذاته مشدوداً إلى صندوق ذكريات وشهادات يقدمها جلال أمين بأسلوب مشرق، وبلغةٍ بلاغتها مستمدة من هدوء صاحبها الذي استطاع قلمه أن يحلل ببساطة قضايا فكرية عدة، وينفذ إلى أعماق النفس البشرية بسلاسة.

حصاد

من أبرز مؤلفات الكاتب المصري الدكتور جلال أمين كتب:

-- «مقدمة إلى الاشتراكية» .1966

-- «مبادئ التحليل الاقتصادي» .1967

-- «الماركسية: عرض وتحليل ونقد لمبادئ الماركسية الأساسية في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد» .1970

-- «تنمية أم تبعية اقتصادية وثقافيـة» .1983

-- «مصر في مفترق طرق»، .1990

-- «العرب ونكبة الكويت» .1991

-- «الدولة الرخوة» .1993

-- «شخصيات لها تاريخ» .1997

-- «ماذا حدث للمصريين» .1998

-- «المثقفون العرب وإسرائيل» .1998

-- «العولمـة» .1999

-- «شخصيات مصرية فذة» .2003

-- «عصر الجماهير الغفيرة» .2003

-- «عصر التشهير بالعرب والمسلمين» .2004

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/309308.jpg

بلا رغبة في المباهاة، أو ادعاء الفضيلة، يبوح أمين بتفاصيل كثيرة في حياته، ويكشف بجلاء روحه لقارئه، ويفتح كشف حساب لذاته عبر صفحات السيرة، يطرح تساؤلات، يتأمل حياته، بإيجابياتها وسلبياتها، بمباهجها وخيبات أملها، يعرّي ذاته، يراجع نفسه، بشكل غير رحيم أحياناً، يتحدث عما كان ينبغي أن يتحلى به في موقف ما، والكلمة التي خرجت منه في لحظة غضب معينة، يسجل بلا مواربة آراءه في كل شيء، بداية من أبيه، ووصولاً إلى كل ما يدور حوله في بلده، وفي هذا العالم، إذ تحتشد ذكريات أمين بوقائع كثيرة، وتتسع فضاءاتها المكانية منتقلة بين دول عدة، مصر، وإنجلترا، وألمانيا، وأميركا، والكويت، ولبنان، وغيرها من الدول التي حط فيها الكاتب، إما أكاديمياً أو زائراً عابراً.

تمثال

لا يحتاج كاتب السيرة الذاتية، وفق جلال أمين في مقدمة «ماذا علمتني الحياة» (الصادر عن دار الشروق في 399 صفحة) «إلى البحث عن تبرير لكتابتها، إذ إن تمثالاً جميلاً يكمن في حياة كل منا، والمطلوب فقط هو الكشف عنه. لا يحتاج كاتب السيرة الذاتية إلى أن يكون شخصاً عظيماً أو سياسياً خطيراً، أو أن يكون قد قابل في حياته بعض الكبراء والمشهورين، أو أن يكون كاتباً مرموقاً أو فناناً موهوباً.. فكل منا شخص متميز، بل متميز جداً، ولديه في مسيرة حياته ما يستحق أن يروى. التمثال الجميل كامن داخل كل قطعة من الحجر، حتى لو بدت قطعة حجر عادية. المطلوب فقط استخراج التمثال المختبئ من مكمنه»، كاشفاً عن أنه بدأ في إعداد سيرته منذ زمن، وليس قبل صدور جزئها الأول مباشرة، إذ ظهرت الإشراقة الأولى لها عام .1987

وينطلق أمين في سرد فصول حياته من حدث يعود إلى ما قبل ميلاده، من قصة طريفة سمعها من أمه، فالوالد كان مصراً على أن تقوم الأم بعملية إجهاض، إذ لا ضرورة لعضو جديد في بيت يضم سبعة من الأبناء (خمسة ذكور، وبنتان)، لكن الأم أصرت على موقفها حتى بعد أن اخذها الأب إلى طبيب، لإجراء عملية الإجهاض، ورأى الابن الثامن في الأسرة (جلال) النور في 23 يناير عام .1935

تفصّل الفصول الاولى من السيرة طبائع الوالدين، والاختلافات المتباينة بين شخصيتهما، الأب العالم، الجاد، قليل الكلام الذي لا يجد متعته إلا في القراءة والكتابة، والأم ذات الأصول الريفية «ست البيت» التي لم تنل حظاً من الثقافة، والمرحة الحريصة على جمع القرش على القرش، خوفاً من القادم من الأيام، ومن زوجها في الوقت نفسه.

أسرار

يتطرق جلال أمين إلى كشف ما اعتبره البعض اسراراً كان ينبغي ان تستر، لا أن تفضح على الملأ في كتاب، فالأم روت لصغيرها كثيراً قصة حبها الأول، وشجونها وآلامها، وخيبة أملها في أبيه «الرجل الذي لا يعرف المزاح أو المرح.. والمنشغل بكتبه وأوراقه»، بينما كان هناك قلب آخر ينبض بحبها، وكذلك كان قلبها معلقاً به. وفي المقابل، يذكر الكاتب نقلاً عن بعض مذكرات والده أن الأخير كان يحلم بزيجة أخرى، على الرغم من الرضا الذي كان يظهر عليه أحياناً، وتقديره لزوجته ذات الحظ القليل من العلم والجمال، بل وحبه لسيدة إنجليزية كانت تعطيه دروساً في اللغة.

تلك التفاصيل، وغيرها كثير عن العائلة والإخوة السبعة، لم يرَ فيها جلال امين ما يشين، إذ يقول في مقدمة «رحيق العمر» (461 صفحة) رداً على منتقديه «تلقيت من أربعة أو خمسة أشخاص من داخل العائلة، ومن خارجها، لوماً شديداً على أني نشرت مثل هذا الكلام. واعتبروا أني تسببت في ما يمكن تسميته (الفضيحة)، وأن مثل هذه الأمور لا تُنشر، ولا تقال. وأبي لم يكتبها للنشر، فلماذا أعطي لنفسي الحق في شيء يخصه، ولم يرد هو نشره، وإلا لكان قد قام به في حياته؟ والحقيقة أن هذا اللوم لم يترك في نفسي أي أثر ذي شأن، إذ أكاد أكون واثقاً كل الثقة بأني لم أخطئ...».

ويرى أمين أن والده، الذي رحل في عام ،1954 لو عاش حتى الفترة الحالية، ورأى تغير الحياة الاجتماعية، فربما نشر تلك المذكرات، ولما تحرج مما فيها. وتشكل تلك المشاهد الأسرية التي انتقدها البعض جزءاً من السيرة التي تحفل بإكبار الأب والأم وتقديرهما، والإشادة بكفاحهما معاً، وحرصهما على تربية أبنائهما افضل تربية، وعتاب الكاتب لذاته على ما اعتبره عدم ايفاء الأب حقه، خصوصاً حين يتذكر كيف كان يحاول الأخير بعد تقدمه في العمر، أن يفتح حوارات مع الابن، ويستبقيه معه ليأنس به للحظات في ليل الشيخوخة الطويل.

محطات

من المحطات التي توقف أمامها جلال أمين الحائز جائزة العويس الثقافية في دورتها الأخيرة، مرحلة الصبا، وبدايات تشكل وعيه، وتعلقه بالقراءة وهو في مرحلة مبكرة من حياته، راداً الفضل في ذلك إلى البيت الذي نشأ فيه، خصوصاً والده وأخاه حسين امين، ويعدد الكتب التي طالعها في صباه، ومحاولاته الكتابية الأولى، التي نشر بعضها في مجلة الثقافة التي كان يترأس تحريرها والده.

ويقول صاحب «ماذا علمتني الحياة» «لقد تذوقت طعم الصيت والشهرة، منذ كنت تلميذاً صغيراً في المدرسة الابتدائية، إذ كلما دخل زائر أو مفتش في أحد دروس اللغة العربية، وجدت المدرس يهمس في أذنه بأنني ابن الاستاذ أحمد أمين، وقد وجدت الأمر لذيذاً واستطعمته، ولا شك أن هذه التجربة المبكرة قد غرست في نفسي بذور الإدمان، أي إدمان السعي إلى ذيوع الصيت ولفت الأنظار».

ويحكي جلال أمين عن المرحلة الجامعية وتخرجه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وقصة انضمامه في تلك الفترة إلى حزب البعث، ولقائه مؤسس الحزب السوري ميشيل عفلق، وكيف ترك الحزب بعد فترة، متقلباً بين اتجاهات ايدولوجية مختلفة.

يحصل جلال أمين على بعثة لدراسة الاقتصاد في جامعة لندن، وينال شهادتي الماجستير والدكتوراه، ويقترن في تلك الفترة (1963) بزوجته الانجليزية جان التي تعرف إليها في الجامعة، واعتبرها الحب الحقيقي في حياته، والتي انتقلت معه للعيش في مصر عقب عودته، وتعيينه في جامعة عين شمس مدرساً للاقتصاد.

يروي صاحب السيرة ميوله السياسية، وآراءه في كل مرحلة من المرحلتين الناصرية والساداتية، والمضايقات التي تعرض لها نتيجة جهره بمعتقداته التي جرّت عليه متاعب عدة، فانتقد نظام الدولة «الخانقة» في عهد عبدالناصر، والدولة «الرخوة» في عهد السادات، وكذلك يمتد انتقاد الكاتب إلى المرحلة الحالية.

في مطلع الثمانينات يُعين جلال أمين استاذاً في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ويبدأ في نشر مقالات في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكان معظمها في صحف معارضة، يقول «مع تكرار تجربتي في الكتابة والنشر استقر في ذهني أن من الممكن بالفعل أن أصبح كاتباً، أي أن أحقق ذلك الأمل القديم الذي بدأ يراودني منذ مطلع الصبا، ولكنه كان حينئذ أقرب إلى حلم من أحلام اليقظة، وقد زادت ثقتي بذلك شيئاً فشيئاً بنشري كتاباً بعد آخر في موضوعات غير اقتصادية».

والمفارقة ان جلال أمين، الاكاديمي صاحب المؤلفات العديدة في تلك الفترة، الذي بدأ النشر في مرحلة مبكرة من حياته، كان يرى نفسه حتى فترة متأخرة لا يستحق لقب كاتب الذي حازه وفق اعتقاده في بداية الثمانينات.

تويتر