«المسافر».. بريد سينمائي مسجّل

بطل «10 حتى 11» مسكون بتوثيق كل ما يسقط من الحياة اليومية للآخرين. من المصدر

نبدأ من فيلم افتتاح الدورة الثالثة من مهرجان الشرق الأوسط السينمائي، أو نسافر مع الفيلم المصري «المسافر» لنحط الرحال في تركيا، حيث علينا أن نكون أمام فيلم مشارك في المسابقة الرسمية أيضاً حمل عنوان «من 10 حتى 11».

إلى أين مضى «المسافر»؟ وكيف لسفر هذا المسافر أن يقع في ثلاثة أيام، ولنقل ثلاثة تواريخ فاقعة وراسخة، وما إلى هنالك من صفات. تأتي الإجابة عاجلة في فيلم المصري أحمد ماهر وهو يقدم تجربته الإخراجية الأولى، وفي إنتاج جاء من وزارة الثقافة المصرية. وعلى شيء من الرهان، جعل الفيلم تحت رحمة وابل من النيران الصديقة وغير الصديقة، مع حالة استنفار كاملة حمّلته وزر فوز الفيلم الإسرائيلي «لبنان» في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي، كون «المسافر» من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية ولم يستطع سرقتها منه! الأمر الذي لا يدفع إلا إلى توصيف هكذا مقاربة بالمضحكة حقيقة، وبما يدفع للرثاء والضحك في آن معاً.

يطمح فيلم أحمد ماهر إلى تقديم ما يمكن أن يتبدى بداية فانتازيا بصرية، وحكاية مسكونة برهافتها وانفتاحها على جماليات بصرية، تتناغم فيها اللقطة مع الديكورات التي سنعثر عليها في سفينة يحوم فيها طيف فيدريكو فيلليني، وعلى شيء من «وتبحر السفينة»، .1983 ولعل تقسيم الفيلم إلى ثلاث مراحل، مرتبطة بتواريخ مفصلية في تاريخ مصر والوطن العربي، يحيل إلى فعل مجاور، طالما أننا لسنا حيال تداخل بين الأحداث والتواريخ، فالسفر زمني وليس تاريخياً، والحكاية التي يرويها تدافع عن جمالياتها بمنطقها الخاص، بسحريتها، وانحيازها أولاً إلى اللقطة والسرد البصري المتناغم مع السيناريو.

نعود إلى التواريخ الثلاثة، والتي تعني في الوقت نفسه أقسام الفيلم، ،1948 نحن أمام حسن (خالد النبوي)، وهو موظف في بريد قناة السويس، ينتحل شخصية فؤاد الذي تراسله فتاة أرمنية اسمها نور (نسرين عبدالنور) ععمرأجمل جميلات السويس، والتي وقع بغرامها كل الرجال، ويمضي إلى ملاقاتها على سطح السفينة التي عادت بها إلى مصر. وهنا يمضي الفيلم خلف كل ما له أن ينتمي إلى تلك المرحلة، من حيث الموسيقى والغناء والأزياء، وحسن يبحث عن نور إلى أن يقع عليها، فإذا بها تصدق بأنه فؤاد الذي مضى وقت طويل لم تره، لكنه سرعان ما يمضي إلى فظاظة ذكورية، تحت إملاءات إثباته رجولته، ومؤثرات قبطان السفينة ويمارس الحب معها كفعل اغتصاب، لكن سرعان ما يظهر فؤاد الحقيقي (عمر واكد)، وليتزوج من نور في الليلة نفسها.

لا تتوقفوا عند منطقية الأحداث، دعوا الأمر للكاميرا وتنقلاتها أن تقودكم برشاقة وخفة، والتعاطي المكثف مع الزمن الافتراضي للفيلم، ومعها الأغاني التي توظف كعامل رئيس في ما نشاهده، فكل حدث يقع في لقطة، وعلى الأكثر في مشهد، والحكاية تمضي وفية لسحريتها، كأن يكون رد فعل حسن الوحيد على زواج نور هو في إجبار فؤاد على خلع البدلة التي استأجرها حسن في الأصل، ولتمضي زفة العرس وفؤاد في الثياب الداخلية. هذا مثال عن منطق السرد، ولن يمنع مخرج وكاتب الفيلم من جعل حسن يحرق حظيرة السفينة، لنمضي خلف لقطة ترمى فيها الخيول في البحر.

حسن هو بطل الفيلم والراوي، ونور ستبقى حب حياته الأوحد، لكن، وفي الجزء الثاني، أي في ،1973 والذي تدلل عليه الأزياء وقصات الشعر والسيارات، وأغنية «والله زمان يا سلاحي» كإشارة سريعة إلى حرب أكتوبر، الأمر الذي لن يكون حاضراً بحال من الأحوال في الجزء الأول، بمعنى أن نكبة فلسطين تاريخ حاضر في خلفية الأحداث. عودة إلى الجزء الثاني، إذ يكفي اتصال هاتفي لأن تتغير حياة حسن، حيث سيقع على ابنته طبق الأصل عن أمها (نسرين عبدالنور مرة أخرى) التي تكون قد فقدت أخاها الذي رمى نفسه في بحر متلاطم بالأمواج أو ما تسميه «البير».

في هذا الجزء ما يمتع أيضاً، هناك ما يربط بين العرس والمأتم، مأتم الأخ الذي ينقلب إلى عرس تتزوج فيه أخته من صديقه المختل عقلياً، هناك ما يجعل من تنجيد الفراش طريقاً إلى حريق، وثمة ديكة تتصارع، وقبر يفتح، وآخر يكون قد نهب، وتجاور لصيق بين الحياة والموت.

مع دخولنا الجزء الثالث، يظهر عمر الشريف، وهو يهيمن على الشاشة بحضوره الطاغي وقد صرنا أمام حسن العجوز، والتاريخ 11 سبتمبر ،2001 وهنا يلتقي حسن حفيده، وتتوقف الموسيقى والأغاني التي تلعب دوراً رئيساً في سردية الفيلم ومراحله التاريخية، ويستعاض عنها بالقرآن والأذان، والتركيز على الصلاة، ولعل كل ما نشاهده يكون في شهر رمضان، كما ليقول لنا الفيلم إن التديّن هو السمة الأساسية لهذه المرحلة. وإلى جانب ذلك، يأتي حفيد حسن بوصفه شخصية مهزومة، كل طموحه أن يكون مثل خاله الذي غرق في البحر، وجده حسن يدفعه إلى جرأة هو نفسه يفتقدها، لكن ما سيواجهه بعد الألفية الثانية سيكون مختلفاً، الناس أكثر شراسة ويمكن أن يتم الرد عليه بواسطة السيف، ثم سرعان ما تظهر طبيبة تجميل (بسمة) تهيمن الإنجليزية على حديثها. إنها الطبقة الثانية الطافية على سطح المشهد في مصر وربما في دول العالم الثالث، فإما أصولية متزمتة أو الانسلاخ التام عن المجتمع وما من خيار ثالث، ولعل جانباً مهماً يتبدى في هذا الجزء ألا وهو حالة الرثاء، تآكل كل شيء وتفسخه الذي تضيئه مشاهد كثيرة، وعليه، يبدو الفيلم في هذه المرحلة على شيء من الحنين، بحيث يلتصق الجزء الثالث بالواقع أكثر، كما لو أن يقظة واقعية سرت في شرايينه، من دون أن يمنع ذلك حسن من الخروج بحفيده من المستشفى، وهو لم يستيقظ من المخدر جاراً سريره، أو أن نكتشف بأن ولدي نور من صلب حسن وفؤاد سوية، بينما الطبيبة تحلل صورهم تحت وطأة بحث حسن عن سبب كون أنف حفيده كبيراً. نودّع «المسافر»، ملوّحين له بإعجاب، ونلتقي فيلم «10 حتى 11» للتركية بيلين إسمر، والتي تقدم أيضاً أولى تجاربها الروائية الطويلة، هي القادمة من الوثائقي، ولنكون أمام شخصية يتمحور حولها الفيلم، وهي العجوز مدحت الذي قارب الـ،80 وكل هوسه تجميع ما يسقط من حياتنا يومياً، توثيق كل شيء وجمعه وعدم التفريط بملصق صغير أو صحيفة أو طابع، في تتبع للهوس بالتقاط أصغر الأمور وأكبرها، ووضع اليد على الحياة بحذافيرها.

نحن في حضرة رجل يحتفظ بتسجيل مكالماته، بالأعداد الكاملة لصحف ومجلات منذ ،1950 ومعها أوراق اليانصيب، أعداد هائلة من الساعات والمصابيح التي تعمل يدوياً، وغيرها الكثير، بحيث يحتفظ في البيت بممرات بالكاد تتسع له لأن يمر من بينها، وهذا ما يسميه «مجموعته»، والتي حين كان عليه أن يختار بينها وبين زوجته اختار مجموعته.

لكن كل شيء سيحاصره، البناية التي يسكنها يسعى سكانها إلى هدمها وبناء غيرها، وسرعان ما يصبح خلاصاً لبواب البناية، حين يستعين به في شراء احتياجات مجموعته، هذا البواب سيخرج إلى الحياة بوساطته، وما سيكون ترفاً بالنسبة لمدحت سيتحول إلى خلاص ومن خلال تلك المجموعة. يمضي إلى المكتبة ليبحث عن كتاب، يكمل فيه مدحت مجموعاته فيجد عملاً فيها، يبيع أشياء من أغراضه التي يسأله وضعها في مخزن البناية فيتمكن من استئجار بيت خصوصاً أنه سيمسي من دون عمل، مع إخلاء البناية وبقاء مدحت وحده فيها.

مشكلات الزمن التي تحاصر مدحت الأرستقراطي المأخوذ بخصوصيته ودراسته في أميركا، ورغبته بأن يكون هو من اخترع «الترانزستور»، ستكون حلولاً لمشكلات البواب الذي يطمح لأن يحصّل رزقه، ويتمكن من إحضار زوجته وابنته من قريته، ليسكنوا في بيت لائق وليس في قبو رطب.

في ما تقدم نقاط قوة الفيلم، في كلتا الشخصيتين وتبادلهما الأدوار، غرائبية الأولى واصطدامها بواقع مر، مرارة واقع الثاني، وتحوله إلى حلاوة متأتية من عادات وهوايات الأول.

لكن، عند البحث عن مساحات بصرية خاصة، سنجد الكاميرا تتعقب الشخصيتين على هدي السيناريو المصاغ بحنكة، وهي تسجل أفعالهما من دون أية انزياحات أو تنويعات وصولاً إلى مصير كل واحدة منهما.

تويتر