فيلم فقد بوصلة تحديد الاتجاه

فرانسز مكدورمند تعاقب الجميع في «ثلاث لوحات إعلانية...»

صورة

يبدأ فيلم Three Billboards Outside Ebbing, Missouri أو «ثلاث لوحات إعلانية خارج إبينغ، ميسوري»، بمشهد امرأة تتوقف أمام ثلاث لوحات مخصصة للإعلانات على طريق عام، ثم تذهب إلى الشركة المسؤولة عن وضع الملصقات المطلوبة، وتطلب منها كتابة العبارات الاستنكارية التالية على كل لوحة؛ الأولى: اغتُصبت وهي تحتضر. الثانية: حتى الآن لم يُعتقل أحد، والثالثة: كيف يحدث ذلك يا رئيس الشرطة ويلوبي؟ العبارات الثلاث تؤسس لسيناريو الفيلم وتزودنا بخلفية الأحداث التي تجري، وتفسر غضب المرأة واسمها ميلدرد هيز (فرانسز مكدورمند)، التي دفعت 5000 دولار ثمن تلك الإعلانات على لوحات مهجورة، لم تستخدم منذ عام 1986.

لمشاهدة تشكيلة الفريقين، يرجى الضغط على هذا الرابط.

استلهام جون وين.. مع الفارق

صرّحت مكدورمند بأن أداءها المتحفظ جداً، مستلهم من أسلوب النجم الراحل جون وين، الذي اشتهر بأدوار الرجل الطيب ذي الملامح والطباع القاسية أحياناً، الفارق أن وين عاقب من استحق العقوبة، بينما ميلدرد هنا تعاقب الجميع.

1996

العام الذي فازت فيه مكدورمند بـ «الأوسكار» عن «فارغو».. وهي مرشحة للجائزة عن عملها الجديد.

جريمة قتل واغتصاب ابنتها المراهقة أنجيلا (كاثرين نيوتن)، التي تذكر دون أن نراها بينما الفتاة تظهر في مشاهد استرجاعية تضع حملاً ثقيلاً على ميلدرد، وما يزيد الطين بلة هو عجز الشرطة عن حل الجريمة بعد سبعة أشهر. مسألة عجز الشرطة لم تقنع ميلدرد، التي اتهمتهم بالعنصرية (إشغال أنفسهم بتعذيب وضرب مواطنين من أصول إفريقية) والكسل.

تلك التهم تنطبق على ضابط واحد يدعى جيسون ديكسون (سام روكويل)، غير كفوء يشغل نفسه بقراءة القصص المصورة أمام زملائه، ويشاع بأنه ضرب مواطنين من اللون الآخر، لكن رئيس الشرطة بيل ويلوبي (وودي هاريلسون) على عكس ما تتصور ميلدرد، فهو والد محب لعائلته ومتسامح مع الجميع، ومتعاطف مع عدم كفاءة ديكسون، ويعتقد أن هذا الأخير رجل صالح رغم عنصريته.

عبارات ميلدرد الاستنكارية على اللوحات تثير غضب كثيرين من المتعاطفين مع ويلوبي، ورغم أن مجتمع تلك البلدة إبينغ (خيالية ترمز للمجتمعات الأميركية النقية البعيدة عن الصخب والمهاجرين والانفتاح) متعاطف 100% مع ميلدرد في قضية مقتل ابنتها، لكنه ضدها في التشهير برئيس الشرطة، الذي يحظى بصداقات واسعة.

على السطح

لا يتمتع الفيلم بقصة استثنائية يخرج منها المشاهد بانطباع معين، لكنه فيلم يعتمد على الأداء لدفع أحداثه. ورغم أنه لا يغوص كثيراً تحت السطح، فإنه ينتقد عناصر كثيرة سائدة في المجتمع الأميركي المحافظ؛ مثل العنف والعنصرية والانحلال الأخلاقي.

الفيلم، حتى الآن، خرج بترشيحات لجوائز عدة: (أفضل فيلم، وأفضل ممثلة في دور رئيس، وأفضل ممثل في دور مساند) ولا غرابة، كونه يضم نخبة من أفضل النجوم، في مقدمتهم فرانسز مكدورمند الحائزة «أوسكار» أفضل ممثلة عن فيلم «فارغو» عام 1996، من إخراج زوجها جويل كوين، وهي مرشحة اليوم عن هذا الفيلم، الذي فازت عنه حتى اللحظة بثلاث جوائز، وهي متجهة إلى انتزاع «الأوسكار»، عن هذا الدور الذي تصارع فيه شياطين شخصيتها، كي تحافظ على اتزانها أمام ما تبقى لها في حياتها، وهو ابنها.

روكويل يؤدي شخصية مهزوزة: ضابط شرطة واقع تحت سيطرة والدته، التي علمته العنصرية، أحياناً يبدو مهرجاً، أو جباناً، أو مجرماً. وهاريلسون - قادر على أداء دور الطيب والشرير بالقدر نفسه من البراعة - يستخدم جاذبيته لتدعيم سمات شخصيته.

لا يركز الفيلم على غموض الجريمة، ولا على إبراز ثغرات قانونية في إجراءات الشرطة، بل على دراسة سلوك شخصياته، خصوصاً ميلدرد وديكسون وويلوبي. الشرطة في الفيلم مثل محل بقالة، تدخل ميلدرد وتشتم ديكسون، وتخرج دون أي رادع.

ضباط المركز جالسون على طاولات زملائهم يتضاحكون، أو واضعون أقدامهم على الطاولات، بل إن المركز - البقالة يغلق أبوابه ليلاً، ويرسل أفراد الشرطة ليناموا في بيوتهم، دون أدنى اعتبار لأي طارئ قد يحصل. ربما يكون هذا ضرباً من الخيال الجامح للمخرج والكاتب المسرحي البريطاني مارتن ماكدونا، يخدم من خلاله هدفه من الفيلم؛ وهو الانتقاد اللاذع لتقصير السلطات الأميركية في تلك البلدات الصغيرة، في جنوب ووسط الولايات المتحدة.

شخصيات متخبطة

رغم أن الفيلم يعتمد على الأداء، فإن ذلك لا يضمن نتائج مُرضية، كنتيجة، الفيلم فاقد بوصلة تحديد الاتجاه؛ لأن شخصياته نفسها محتارة ومتخبطة، وتتخذ قرارات لا معنى لها في أحيان كثيرة.

مثلاً.. بمجرد أن يبدأ المشاهد بالارتباط عاطفياً مع ويلوبي، بسبب إصابته بالسرطان وظهور الأعراض بقوة عليه، فإنه يتخذ قراراً متهوراً جداً يقطع ذلك الارتباط، علماً بأن ويلوبي هو أفضل شخصية مساندة في الفيلم.

شخصية ديكسون كشرطي عنصري، تمر بأطوار عدة في طريقها إلى الخلاص، رغم الأداء القوي فإن تلك شخصية بحاجة إلى فيلم مستقل، وليس من الحكمة زجها في دور ثانوي، كنتيجة، ديكسون يتطور من حالة لأخرى مناقضة دون أي تحضير نفسي له ومنطقي لنا، وهنا بكل بساطة الشخصية لا تصدق رغم جهود الممثل، لأن مثل هذا التغيير يستغرق سنوات، وليس 24 ساعة حسب الفيلم!

ماكدونا لا يريدنا أن نحب أو حتى نقترب من ميلدرد ناهيك عن التعاطف معها، ففي البداية نحن متعاطفون مع قضيتها كأم فقدت ابنتها ضحية جريمة مؤلمة، لكن تصرفات ميلدرد الغريبة تجعلنا ننفر منها جداً، فهي تعتدي بالضرب على الجميع تقريباً، دون سبب يذكر!

ميلدرد تثقب إصبع طبيب الأسنان بآلته لأنه متعاطف مع ويلوبي، وتوبخ قسيس البلدة الذي يزورها في المنزل، ثم تضرب صبياً وفتاة عند المدرسة، لسبب أتفه من أن يذكر، ثم تحرق مركز الشرطة بقنابل مولوتوف.

الغريب أن رئيس الشرطة لا يجري تحقيقاً في حادث احتراق المركز رغم فداحة الخسائر، ومتيقن من براءة ميلدرد رغم أنها الوحيدة التي لها دوافع، ومن الصعب جداً عدم الشك فيها، وهنا يبرز قرار المخرج أكثر في التحكم بسير الفيلم بدل أن يتركه يتخذ مجراه المنطقي.

تعاطف لـ 20 دقيقة

نعم الأداء رهيب من مكدورمند، لكن ما هذه الشخصية العجيبة التي تعاطفنا معها في أول 20 دقيقة، قبل أن ننفر منها لأنها تتخذ قرارات لا معنى لها. سنتفهم لو كان غضباً ضد الشرطة مثلاً، لكن غضبها ضد الجميع. كنتيجة قد يشعر المشاهد بالنفور أو عدم الاهتمام بقضيتها، لأن ميلدرد كما شاهدناها في الفيلم امرأة فظة لا تستحق التعاطف.

هناك مشهد استرجاعي لميلدرد عن نقاش حاد مع ابنتها حول منع الثانية من قيادة السيارة، ينتهي بخروج الابنة غاضبة، قائلة: «أتمنى أن أُغتصب». وترد الأم: «أتمنى أن يتم ذلك فعلاً». المشهد غرضه وضع أساس عقدة الذنب التي تؤرق الأم؛ لكن رغم أداء مكدورمند القوي، يبقى المشهد خالياً من أي عواطف.

ومن أغرب مشاهد ميلدرد، المتعلقة بقراراتها غير المفهومة، يجمعها مع مشتبه فيه، يخبرها بأنه تمنى اغتصاب ابنتها، فاختارت تجاهله لكنها عاقبت الجميع.. وكل الأبرياء!

تويتر