الفيلم يتميز في التمثيل ورؤية سبيلبيرغ الإخراجية

«ذا بوست».. مرآة لأحداث اليوم ويضع هانكس وستريب في دورين غير نمطيين

صورة

اسمان لامعان في هوليوود يستطيعان إدارة أفلام من أنواع عدة في فترات متقاربة جداً: المخضرم ستيفن سبيلبيرغ، أفضل صانع أفلام في هوليوود، والرقم واحد بلا منازع، وبعده ريدلي سكوت. لن نقلل من أهمية مارتن سكورسيزي، لكنه لم يخض كل أنواع الأفلام التي خاضها رفيقا دربه.

سبيلبيرغ يتفوق على سكوت في سرعة انتقاله من مشروع لآخر، وليس سرعة صناعة الأفلام، فلا أحد ينسى كيف صنع خمسة أفلام جميلة في ثلاث سنوات فقط! «تقرير الأقلية»، و«أمسكني لو استطعت»، و«ذا تيرمنال»، و«حرب العوالم»، و«ميونخ»، أول فيلمين عام 2002، وآخر فيلمين عام 2005.

نذكر ذلك لأن سبيلبيرغ بدأ فيلم The Post نسبة إلى صحيفة «واشنطن بوست»، في مايو الماضي، وطرحه في ديسمبر. الطريف أن سبيلبيرغ صنع «ذا بوست» بينما كان ينتظر انتهاء فريق المؤثرات الخاصة من وضع لمساته على فيلمه التالي بتقنية الواقع المعزز Ready Player One، الذي سيطرح مارس المقبل، ورغم الاستعجال الشديد إلا أن الفيلم يعكس خبرة الرجل وتمكنه وإجادته التامة لعملية صناعة الأفلام.

تسريب

استعجال

استعجال الفيلم يظهر جلياً في انتهائه من دون الإشارة لما حلّ بالشخصيات بعد الأحداث، وأين هي اليوم، خصوصاً أن ملكية الصحيفة انتقلت إلى عملاق التجارة الإلكترونية، جيف بيزوس، مؤسس ومالك موقع «أمازون» الشهير.


للإطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.



• سبيلبيرغ نجح في توظيف قدرات أكثر نجمين سينمائيين أميركيين شعبية في الـ40 سنة الأخيرة في أهم دورين.

يبدأ فيلم «ذا بوست» من فيتنام عام 1966، ونرى المحلل العسكري، دانيال إلسبيرغ (ماثيو رايز)، يرافق الجنود الأميركيين في أرض المعركة لتوثيق التقدم العسكري لمصلحة وزير الدفاع الأميركي روبرت مكنمارا (بروس غرين).

ينسخ إلسبيرغ الوثائق السرية المعروفة باسم «أوراق البنتاغون 1945-1967» التي كان مطلعاً عليها، وتعود لعهد الرئيس، هاري ترومان، ويسرّبها لصحيفة «نيويورك تايمز».

في العاصمة واشنطن، تحاول وريثة صحيفة «واشنطن بوست»، كاثرين غراهام، أن توازن بين حياتها الاجتماعية ومسؤوليتها كمالكة للصحيفة التي ورثتها من زوجها بعد انتحاره. غراهام مترددة وغير واثقة بقدراتها كامرأة في قيادة الصحيفة، وعادة ما يطغى قرار رئيس التحرير بين برادلي (توم هانكس)، أو قرار عضو مجلس الإدارة آرثر بارسونز (برادلي وايتفورد)، على قرارها. بعد ستة أعوام وآلاف القتلى من الجنود تم كشف الحقيقة في «نيويورك تايمز»، وهي أن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تكذب على الشعب بخصوص مجريات الحرب، وتزعم وجود انتصارات بخلاف ما يجري في أرض المعركة، وعندما قيد الرئيس، ريتشارد نيكسون، تلك الصحيفة بأمر قضائي، تسربت أوراق البنتاغون إلى صحافي «واشنطن بوست» بين باغديكيان (الرائع بوب أودينكيرك - من مسلسلَي بريكنغ باد وبتر كول سول) ومن ثم نشرتها «واشنطن بوست».

مستويات

الفيلم يتميز على مستويات عدة، بداية مستوى توزيع الأدوار: سبيلبيرغ يضع هانكس وستريب أكثر نجمين سينمائيين أميركيين شعبية في الـ40 سنة الأخيرة في أهم دورين، والممثلان لا يخذلان مخرجهما.

هانكس في خامس تعاون له مع سبيلبيرغ في دور غير اعتيادي، كرئيس تحرير ذكي ومتمرد لا يفهم كلمة «غير صالح للنشر»، وهو عكس أدواره الأخرى كرجل الشارع العادي. ستريب في أول تعاون لها مع المخرج كذلك في دور غير اعتيادي، وهو الأفضل في القرن 21 ولا نستبعد حصولها على ترشيح جديد.

ستريب هنا تؤدي بشكل رائع جداً، للمرة الأولى نراها في دور المترددة غير الواثقة من نفسها، وهو مخالف لكل أدوارها السابقة، ويعكس الدور التحدي الذي وضعه سبيلبيرغ أمامها، هذه ستريب التي نبحث عنها، هذه ستريب عندما تخرج من منطقة الأمان، هذه ستريب التي نستطيع أن نرد على الرئيس، دونالد ترامب، عندما قال عنها إنها ممثلة مبالغ في تقديرها، وليست تلك الأدوار التي مللناها وتؤديها وهي نائمة.

الفيلم يحوي فيلمين بداخله من دون تشتت القصة الرئيسة، الأول عن سلوك شخصية برادلي، والثاني - وهو الأفضل - عن سلوك شخصية غراهام، وتستحق قصتها أن تسرد في فيلم مستقل.

المستوى الثاني إخراجي بامتياز، أولاً سبيلبيرغ يزود المشاهد غير المطلع بخلفية جيدة عن القصة لفهم أساسيات موقف كل طرف، ثانياً يتجنب ملء الفيلم بحوارات غير ضرورية وكل جملة تحمل تطوراً للقصة (بعكس نص فيلم «لعبة مولي» الذي يهين ذكاء المشاهد ويسرد الأحداث مثل مباراة كرة قدم)، ثالثاً يطور أهم شخصيتين في القصة ويتعمق أكثر في الصراع الداخلي لشخصية غراهام، لأن قرارها بالنشر هو الكلمة الفصل، رابعاً يوازن ببراعة شديدة بين نبرة الفيلم وسرعة سير أحداثه، وهو ما حافظ على تماسك النص.

فنيات

سبيلبيرغ يدمغ «ذا بوست» بفنياته، وأبرزها اللقطة التي ينتظرها كل من يعرف أسلوبه، وهي لقطة الانعكاس، أولاً وجه هانكس في مرآة السيارة، ثم وجه أودينكيرك منعكساً على سطح هاتف عمومي، والغرض منها رصد نشاطين في آن واحد.

لقطة أخرى تدور حول ستريب أثناء وقوفها في صالة منزل قبل اتخاذ قرار النشر تعكس تحدي سبيلبيرغ لضيق المكان، وتبين الحيرة الشديدة التي تمر بها الشخصية، وتنتهي بعيداً عن وجه ستريب، أي أن سبيلبيرغ تخلى عن لقطة التحديق الشهيرة التي يرصدها على وجه شخصية معينة في كل أفلامه، لمصلحة أداء ستريب المتحفظ، التي تُظهر القدر الكافي من مشاعر الشخصية من دون مبالغة.

أما اللقطة الأروع في الفيلم فهي عندما يأمر برادلي المطبعة الموجودة تحت مكاتب الصحيفة بالنشر، وبمجرد أن تبدأ الآلات والمكائن بالعمل، تنتقل الكاميرا إلى المكاتب، وتحديداً مكتب باغديكيان الذي يهتز بشدة، وكأن اللقطة تقول إن نشر الوثائق السرية سيتسبب في زلزال يطيح بعد سنوات قليلة بساكن البيت الأبيض آنذاك، ريتشارد نيكسون، (فضيحة ووترغيت)، وهي أجمل لقطة إيحائية في الفيلم.

رسائل مباشرة

يؤخذ على الفيلم ميله إلى أسلوب المحاضرة، وتخليه عن الإيحائية أحياناً للفت الانتباه إلى رسائله السياسية، مثلاً مشهد خروج غراهام من قاعة المحكمة، واختراقها مجموعة نساء ينظرن إليها بإعجاب ونوع من التقديس، ظهر مقحماً ومبتذلاً إلى حد كبير.

سبيلبيرغ يتعمد تصوير نيكسون كشبح من الخلف من خلال نافذة في البيت الأبيض، والمقصود بالطبع أن الرجل شرير وعدو الصحافة الحرة. هذا الفيلم مرآة لأحداث اليوم، إذ إن هجوم الرئيس ترامب لا يتوقف على الصحافة التي يصفها بالكاذبة عبر «تويتر»، ووارد جداً أن يختطف الأوسكار كما فعل فيلم Spotlight عام 2016، وهو أيضاً عن انتصار الصحافة في معركة كشف الحقيقة. الفرق أن «سبوتلايت» عن تجميع تحقيق صحافي عن قضية تحرش قسيس بأطفال، أما «ذا بوست» فقضيته أكبر، وتشمل معركة قضائية بين السلطة والصحافة. هذا أفضل فيلم عن معركة الصحافة ضد السلطة منذ فيلم «كل رجال الرئيس» عام 1976، وهو يتفوق على «سبوتلايت» من ناحية عامل التوقيت ورؤية سبيلبيرغ الإخراجية. الطريف في الأمر أن الفيلم يناسب هذا الوقت بسبب كره ترامب الصحافة التقليدية، ولو لم يصل هذا الرئيس تحديداً إلى السلطة، العام الماضي، لفقد الفيلم أهمية وجوده اليوم.. بكلمات أخرى، لو طرح الفيلم منذ عامين فقط لربما مرّ مرور الكرام.

تويتر