مقتبس من قصة حقيقية عن طيار أذكى من المتوقع

«صناعة أميركية» يرد الاعتبار إلى توم كروز بعد سقطة «المومياء»

صورة

توم كروز هو أحد نجوم هوليوود القلائل، الذين تمكنوا من المحافظة على مستواهم من ثمانينات القرن الماضي، البعض يفسر ذلك بأن كروز نجم شباك تذاكر أكثر منه ممثلاً. الفرق أن الأول محدود القدرات التمثيلية، ويعتمد على وهج نجوميته في جذب الجماهير (آرنولد شوارتزينيغر في الثمانينات والتسعينات مثلاً)، والثاني ممثل بقدرات كبيرة، ويتقمص أي شخصية يشاء، ولا يجتذب الجماهير بالضرورة (كريستيان بيل مثلاً). لو قلنا إن كروز نجم شباك تذاكر وليس ممثلاً، فذلك قد لا يكون دقيقاً، إذ إن الرجل يتمتع برصيد كبير من أفلام الدراما في سيرته، أجملها كان في مدخل القرن الـ21، مثل «عيون مغلقة على اتساعها»، و«مغنوليا»، و«سماء الفانيلا»، الأول والثالث نجحا في شباك التذاكر، أما «مغنوليا» فكان ميلودراما رائعة، وفي منتهى الغرابة، إلا أنه أخفق تجارياً.

في الثمانينات كان كروز في الدراما، وفي التسعينات أخذ في التنويع بينها وبين الأكشن، وفي الألفية استمر كروز في الأكشن، ودخل في الخيال العلمي، لكن الملاحظ من اختياراته أنه تجنب الدراما، وانحاز أكثر لسينما «البلوكباستر»، وكأنها منطقته الآمنة، وفي المرة الوحيدة التي دخل فيها الدراما خلال الألفية أخفق الفيلم «أسود من أجل حملان»، فعاد كروز فوراً إلى مظلة الأمان. في العقد الأول من الألفية، كان هناك فيلم واحد لافت جداً لكروز خارج «البلوكباستر»، وهو رائعة مايكل مان Collateral أو «جانبي» عام 2004 عن قاتل مأجور يطلب من سائق تاكسي أخذه في جولة في لوس أنجلوس لتنفيذ مهام قتل، وكان كروز يؤدي شخصية شريرة شرسة للمرة الأولى في تاريخه، وقد أدى شخصيات شريرة بدرجات متفاوتة في أفلام سابقة، أهمها «مقابلة مع مصاص الدماء» عام 1994.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.


مدمن على أدوار المجازفة

توم كروز في دور طيار ليس جديداً، فقد فعلها في Top Gun عام 1986، وسيعود طياراً في الجزء الثاني منه عام 2019، ولا ننسَ أنه تعلق بطائرة في آخر جزء من «مهمة مستحيلة»، أما الجديد فهو أن كروز قاد الطائرة بنفسه في هذا الفيلم، وغادر قمرة القيادة والطائرة في وضعية الطيران الآلي لأجل تصوير مشهد إلقاء رزم المخدرات في لويزيانا، ولا غرابة، فقد أدمن كروز على تأدية أدوار المجازفة.

• كروز نجم شباك تذاكر وممثل يتمتع بقدرات كبيرة تؤهله لتنويع الأدوار.

جامع السمتين

من هذا الرصد السريع نستطيع أن نقول إن كروز يجمع السمتين معاً، فهو نجم شباك تذاكر، وهو ممثل يتمتع بقدرات كبيرة تؤهله لتنويع الأدوار. اليوم لدينا فيلم American Made أو «صناعة أميركية»، المقتبس من قصة حقيقية عن الطيار الأميركي باري سيل، الذي جندته وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) من آخر سبعينات القرن الماضي إلى وسط الثمانينات لتنفيذ مهام في دول أميركا الجنوبية، قبل أن تكتشف أن سيل أذكى مما توقعت، ولديه مآرب أخرى. يبدأ الفيلم بلقطات أرشيفية، ثم نرى طيار شركة «تي دبليو إيه» باري سيل (توم كروز)، الذي تتواصل معه المخابرات الأميركية عن طريق العميل شايفر (دونول غليسون)، وتسند إليه مهمة سرية استطلاعية، وهي التحليق فوق بعض دول أميركا الجنوبية باستخدام طائرة صغيرة والتقاط صور، يوافق سيل على المهمة. في آخر السبعينات تطلب الوكالة من سيل أن يكون حلقة وصل بينها وبين الجنرال نورييغا في بنما. في إحدى المهام هناك تطلب عصابات المخدرات الكولومبية (كارتل) من سيل تهريب كمية من الكوكايين إلى الولايات المتحدة أثناء عودته. يوافق سيل مقابل الإغراءات المالية، وعندما تعلم «سي آي إيه» تتجاهل الأمر، لكن وكالة مكافحة المخدرات الأميركية تتصدى له. توجه «سي آي إيه» إنذاراً إلى سيل بعد افتضاح أمره، وتطلب منه الانتقال إلى مدينة نائية في ولاية أركنسو، اسمها مينا، حيث تطلب منه مهام أخرى.

تأثر

«صناعة أميركية» فيلم جيد جداً، يحكي قصة حقيقية في قالب شبيه بالقصص المصورة، إذ يوظف المخرج دوغ ليمان (أخرج حافة الغد مع كروز عام 2014 وهوية بورن عام 2002)، رواية القصة من وجهة نظر سيل بأسلوبين، الأول السرد الصوتي المدعوم بالصور المكملة (مثل فيلم Goodfellas لمارتن سكورسيزي) أو الأنيميشن أحياناً، والثاني سرد القصة بتصوير سيل نفسه بكاميرا فيديو. ليمان الذي ظهر مرة متأثراً بكوينتن تارانتينو لا يخفي هنا تأثره بمخرج آخر هو سكورسيزي، من خلال الفيلم المذكور سابقاً. الفيلم فنياً يمزج أسلوبين تصويريين، الأول جلبه الإنجليزي بول غرينغراس إلى هوليوود في العقد الماضي من خلال الجزء الثاني من أفلام بورن، ويعتمد على الكاميرا المحمولة في كل اللقطات و«الزوم» السريع جداً، وهو مشتق من الأعمال التوثيقية التي صنعها غرينغراس، والثاني أسلوب شبيه جداً وظفه المصور الأورغواني سيزار شارلون (وهو مصور هذا الفيلم) في فيلم البرازيلي City of God عام 2002. التصوير متناسق تماماً مع الإخراج تحت إدارة ليمان، إذ يوحيان بالسرعة في فنيات العمل، وكذلك في ديناميكية القصة. من جهة أخرى، فإن الفيلم ظهر مقصراً في تقديم الشخصيات، وعدم إعطاء الشخصيات المساعدة فيه المساحة الكافية.

شخصية مركزية

«صناعة أميركية» يركّز على الشخصية المركزية، وهي سيل، لكن هناك شخصيات كانت تستحق المزيد من الاهتمام، مثل زوجة سيل (تؤديها سارة رايت أولسون)، وزعيم عصابات المخدرات الكولومبية بابلو إسكوبار. حتى الشخصية المركزية سيل تعكس سمات تستحق الاستكشاف، ولو استكشفت لربما كان لدينا فيلم أفضل من هذا.

مثلاً، سيل طيار متفوق هو الأول في دفعته، لكنه ينام أثناء الطيران أو يشاغب، وفي الفيلم نعلم أنه يملّ كثيراً، السؤال هو: هل يهرب سيل المخدرات لأنه يبحث عن إثارة يقتل بها الملل، أم لأنه يبحث عن طرق سريعة للثراء، حيث يصاب بالجشع تدريجياً في الفيلم، في الحالين لو كتب الفيلم من هذا المنطلق لكان لدينا فيلم دراسة سلوك شخصية يستحق المشاهدة، كما فعل روبرت زيميكيس في فيلم «فلايت» مع دينزل واشنطن، وهو عن طيار مدمن على الكحول. الفيلم يستخدم الألوان الصفراء والبرتقالية بكثرة في مشاهد أميركا الجنوبية، وهذا أصبح تقليداً متبعاً في هوليوود، أطلقه ستيفن سودربيرغ في فيلم «ترافيك» عام 2000، إذ وظف اللون الأصفر الشاحب في تصوير مشاهد عصابات المخدرات، وتكرر الأمر بعد ذلك في كل أفلام عصابات أميركا الجنوبية إلى هذا الفيلم، مروراً بمسلسل «ناركوس» التلفزيوني.

توم كروز أثبت، كما عهدناه، أنه ممثل ونجم يستحق الأدوار القوية، فهو حتماً أفضل في دور قاتل مأجور أو جندي مسجون داخل حلقة زمنية مقفلة، أو إيثان هانت في «مهمة مستحيلة»، أو طيار متهور في «صناعة أميركية»، وهذا الدور تحديداً مفصل على شخصية كروز، وكل هذه الأدوار المذكورة أفضل من دوره البائس في كارثة «المومياء».

تويتر