فيلم يُروى من وجهة نظر نسائية

«المنخدعات».. تميُّز في الصورة وضياع في النص والإخراج

صورة

عندما فازت المخرجة الأميركية صوفيا كوبولا، (ابنة صانع الأفلام الأميركي القدير فرانسز فورد كوبولا، صاحب ثلاثية العرّاب والقيامة الآن) بجائزة أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي هذا العام، شهق الحضور  في ذهول تام، ليس لأن الفيلم كان تحفة سينمائية، لكن لأنه كان أقل من عادي، فسبب الذهول هو: «كيف فازت كوبولا على أضعف فيلم لها؟».

فيلم The Beguiled أو «المنخدعات» لأنه يُروى من وجهة نظر نسائية، وهو إعادة من فيلم سابق عام 1971 بالعنوان نفسه بالإنجليزية، لكنه يصبح «المنخدع» في الترجمة، لأن المحور فيه رجل، بطولة الأسطورة كلينت إيستوود، والقديرة الراحلة جيرالدين بيج، وإخراج الراحل دون سيغل. والفيلمان مقتبسان من رواية توماس بي كولينان بعنوان «شيطان مخادع» نشرت عام 1966. وهذا أول فيلم لكوبولا معاد صنعه من نسخة سابقة.

الجندي.. والفتيات

للإطلاع على الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.


إخفاق «النسختين»

تجارياً، أخفقت نسختا الفيلم في الولايات المتحدة، ففي عام 1971 كان إيستوود نجماً صاعداً، من خلال أفلام «ويسترن» اشتهر منها بأدوار رجولية، وكانت شخصيته في «المنخدع» - الذي حققه في العام نفسه مع فيلم «هاري القذر»، ومع سيغل نفسه - مختلفة وأكثر قتامة وأضعف جسدياً من شخصياته (الكاوبوي)، التي اعتادها الجمهور فلم يتقبلوه. أما أسباب إعراض الجمهور عن فيلم كوبولا، فربما تكشفه الأيام المقبلة، ولا غرابة لو كانت الأسباب نفسها التي ذكرناها.


مارثا فارنزوورث (نيكول كيدمان) تدير مدرسة فتيات في ولاية فرجينيا أثناء الحرب الأهلية الأميركية، تحديداً عام 1864، المدرسة فارغة، ولم يبق فيها سوى معلمة واحدة تُدعى إدوينا مورو (كريستين دنست في ثالث تعاون لها مع كوبولا)، وخمس طالبات.

بينما تخرج إيمي (أوونا لورينس) للبحث عن فطر في الغابة المجاورة، تعثر على رجل جريح يستند إلى شجرة اسمه جون مكبيرني (كولين فاريل)، وتعلم منه أنه عريف في الجيش الاتحادي (الشمال)، جُرحت قدمه في معركة. تأخذ إيمي مكبيرني إلى المدرسة، حيث يُغمى عليه وتحمله الطالبات ويضعنه على أريكة. تتفرغ مارثا لعلاج الجندي، بينما الفتيات لا يستطعن إخفاء إعجابهن بالجندي الشاب.

في الأيام الأولى تطالب بعض الفتيات بتسليم مكبيرني إلى السلطات الكونفيدرالية (ولايات الجنوب الأميركي) كأسير، لكن مارثا ترفض ذلك وتقرر إبقاءه للتعافي، وتأجيل قرار التصرف به إلى وقت لاحق. وحتى عندما يطرق جنود الكونفيدرالية باب المدرسة تتعمد مارثا التستر على وجود الرجل عندها.

وبينما يتماثل الرجل للشفاء، تبدأ الفتيات في التنافس على الحصول على اهتمامه، وتقديم الهدايا له، والتزيُّن أمامه وتحضير عشاء فاخر له. يتبادل مكبيرني المشاعر العاطفية مع إدوينا ومارثا، وعندما يتمكن من الوقوف على قدميه يبادر إلى المساعدة في حديقة المدرسة، ويبدو واضحاً أنه خائف من العودة إلى أرض المعركة.

مقارنة تفرض نفسها

حتى لو تجنبنا مقارنة نسخة كوبولا بفيلم سيغل، فإن المقارنة ستفرض نفسها لأسباب كثيرة، منها أسلوب الإخراج وتأثير ثقافة المجتمع السائدة آنذاك واليوم، التي وجدت طريقها إلى الفيلم. نسخة سيغل تحمل لمسات رجالية بارزة من ملصق الفيلم، الذي يبرز صورة إيستوود إلى الخط المكتوب به اسم الفيلم، ويشبه خطوط أفلام «الويسترن». فضلاً عن مقدمته القوية التي يستطيع المشاهد أن يشم منها رائحة الحرب، نظراً للصور الفوتوغرافية التي يوظفها سيغل لرسم سياق القصة.

في تلك المقدمة تعثر إيمي على جون وهي تفتش عن الفطر في الغابة، وترى قدمه تنزف قبل أن ترتفع الكاميرا للأعلى، ونراه معلقاً على شجرة، ويسقط منها أرضاً، تلك السقطة في حد ذاتها تحمل كثيراً من التشويق، وتثير الكثير من الأسئلة في ذهن المشاهد. بينما نسخة كوبولا تحمل سمات نسائية بارزة فيها، حيث الملصق لا يظهر سوى البطلات دون البطل، والخط مكتوب بلون وردي متشابك، ما يوحي بأن الفيلم رومانسي وهو ليس كذلك.

كوبولا تبدأ الفيلم بلقطات كأنها لوحات فنية، ثم - كما ذكرنا سابقاً - تجد إيمي جون مستنداً إلى شجرة، وهو مشهد ضعيف لا يثير أي فضول لدى المشاهد. كوبولا ألغت شخصية الخادمة الإفريقية حتى لا تثير غضب الأقلية الأميركية من أصول إفريقية! لكن تلك السقطة أفقدت القصة سياقها وعرّضتها لانتقادات لاذعة من الفريق الآخر، الذي يرى أنها تحاول إنكار جزء من التاريخ الأميركي، وهذا الفريق محق تماماً. حتى لو كان هوليوود والمجتمع الأميركي تبنيا المواقف السياسية الصحيحة، فإن ذلك لا يعني إلغاء العبودية من التاريخ الأميركي، خصوصاً أنها كانت سبباً في نشوب الحرب الأهلية الأميركية. كوبولا لم تكتف بذلك، لكنها عرّت الفيلم الأصلي من كل أساساته، فالقصة عن رجل يحاول إقامة علاقة مع كل فتاة في تلك المدرسة، ويوهم كل واحدة منهن أنه الخيار المثالي لها حتى يتعلقن به، ولا يفكرن في تسليمه إلى السلطات الجنوبية.

كوبولا تصل إلى هذه الجزئية في الدقيقة 55 (من أصل 93 دقيقة مدة الفيلم)، ثم تختصر كل تلك العلاقات وتلغي بعضها حتى تصل إلى النهاية، والنتيجة أن المشاهد لا يفهم شيئاً مما يحدث أمامه، ولا يفهم دوافع الشخصيات. بكلمات أخرى، كوبولا بترت القصة بتراً شديداً إلى درجة أن لقطات النصف الساعة الأخيرة لا تصلح إلا أن تكون فيديو ترويجياً (تريلر) للفيلم.

«كاريزما»

مشكلة أخرى يعانيها المشاهد المطّلع على نسخة 1971، وهي أنه مهما حاول التركيز في فيلم كوبولا فلن يستطيع إزالة إيستوود من ذاكرته. والسبب أن هذا الممثل الأسطورة له كاريزما طاغية جداً، ولا يمكن لفاريل - المفتقد للكاريزما - من مجاراة إيستوود، رغم مرور 46 سنة على ذلك الفيلم. إيستوود أعطى الشخصية ثراءً، بينما فاريل كان ينفذ تعليمات كوبولا فقط.

لا نقول إن فيلم إيستوود كان عظيماً أو حتى تحفة سينمائية، لكنه كان مكتوباً ومخرجاً وممثلاً بطريقة متقنة جداً، كان فيلماً مليئاً بالمشاهد التشويقية الحابسة للأنفاس، كانت كل شخصياته مكتوبة جيداً ولها تعقيداتها الخاصة، وكلها تعاني كبتاً عاطفياً وجسدياً سببته تلك الحرب.

في المقابل، فيلم كوبولا لا يحوي أياً من تلك النقاط، وكل تركيزه على التصوير والألوان وإبراز كل مشهد مثل لوحة فنية. وأكبر مشكلة كانت إخراجياً، إذ ينحدر الفيلم فجأة من الدقيقة 55 ويفقد التوازن والمنطق، وتضيع النبرة إلى درجة أن فاريل يظهر غاضباً في مشهد شاهراً مسدساً في وجه الفتيات، ثم ينتهي المشهد فجأة ونراه ضاحكاً يتناول العشاء معهن دون أي تمهيد منطقي يفسر كيف انطفأ غضبه. غريب فعلاً أن كوبولا أخفقت في الفوز في «كان السينمائي» بأفلام جيدة مثل «ذا فيرجن سوسايدز» و«ماري أنتوانيت» و«ذا بلينغ رينغ»، لكنها فازت بالفيلم الأضعف والأسوأ فوزاً غير مستحق. كوبولا تريد أن تقدم الفيلم من وجهة نظر نسائية ربما لأنها امرأة؛ لكن ذلك أضعف سبب لصنع الفيلم أصلاً، فلا يوجد شيء يدعونا إلى الاهتمام بأي عنصر في الفيلم، والعكس تماماً مع فيلم سيغل، إذ نهتم بكل شخصية.

تويتر