تداخل شديد في تركيب المشاهد

كيسي أفليك يتألق في «مانشستر على البحر»

يرتبط فيلم Manchester By the Sea أو «مانشستر على البحر» مع فيلم «فينسز» الذي شاهدناه الأسبوع الماضي، من خلال مجموعة عوامل مشتركة، الأول أن الفيلمين عن عوائل محطمة، والثاني أن صانعيهما يعملان بين المسرح والسينما، والثالث أن الفيلمين يتنافسان على جائزة أوسكار أفضل فيلم عن عام 2016.

30

ثانية الحد الأقصى للقطة في الفيلم، إذ يعتمد على المشاهد السريعة التي لا تزيد على ثوانٍ.

ويفترقان في أن كينيث لونرغان مخرج وكاتب هذا الفيلم - «مانشستر على البحر» - متمكن من توظيف أدواته السينمائية بشكل جيد، وليس مثل دينزل واشنطن الذي اكتفى بتصوير المسرحية في منزل لتصبح فيلماً.

الفيلم يقدم لنا لي تشاندلر (كيسي أفليك في أفضل دور له)، يعمل في وظائف دنيا كحارس مبانٍ وسباك نهاراً، بينما يقضي لياليه في حانة حيث يثمل ويفقد أعصابه، ويعكس سلوكاً مضطرباً في التعامل مع الآخرين.

في أحد الأيام يتلقى اتصالاً من مانشستر، وهو مكان كان (لي) يوماً ما يسميه داراً، يتم إبلاغه أن شقيقه الأكبر جو (كايل تشاندلر) في المستشفى يعاني مرضاً، وليس أمامه الكثير قبل أن يفارق الحياة. يستجيب (لي) للبلاغ ويسافر من بوسطن إلى مانشستر، وبمجرد وصوله بعد 90 دقيقة من المكالمة يجد أن جو قد توفي.

(لي) أمام أعباء التحضير للجنازة ومهمة أخرى لم يتوقعها أبداً، وهي الاعتناء بابن شقيقه ذي الـ16 عاماً باتريك (لوكاس هيجيز)، هذه المهمة تحديداً تفاجئه وتسبب له ذعراً، لأن جو كتب في وصيته أنه اختار (لي) ليكون وصياً على ابنه باتريك؛ وهذا معناه أحد الأمرين: إما أن ينتقل باتريك إلى بوسطن للعيش مع عمه، أو أن ينتقل العم إلى مانشستر ليعتني بباتريك، وهذا الثاني هو الأكثر رعباً.

يتردد (لي) كثيراً في قبول قرار شقيقه المتوفى، لكن يرفض تسليم باتريك إلى والدته إليس (غريتشن مول) بسبب إدمانها الكحول، حتى عندما رغبت الأخيرة في الأمر، وقرر أخذ باتريك معه إلى بوسطن، لكن الأخير رفض ذلك رفضاً قاطعاً.

الفيلم ينتقل بين القصة الرئيسة والمشاهد الاسترجاعية (فلاش باك)، التي تشرح لنا شيئاً فشيئاً أسباب رفض (لي) قرار وضع باتريك تحت وصايته، وكيف كانت علاقة (لي) بشقيقه وكيف كانت حياته عندما كان يعيش في بلدة مانشستر، وعلاقته مع زوجته السابقة راندي (ميشيل ويليامز) حتى يصل إلى المشهد الذروة الذي سنعود إليه لاحقاً في هذه القراءة.

فيلم فسيفسائي

ينبغي الانتباه إلى أن هذا الفيلم ليس للتسلية أبداً، ليس للمشاهدة بعد يوم عمل متعب، وليس مناسباً للأشخاص الذين يدخلون السينما للبحث عن مهرب من هموم الدنيا، هذا فيلم حزين وكئيب قد يبكي المشاهد لو اندمج فيه. «مانشستر على البحر» فيلم عن مزاج شخصية وحالتها النفسية المعقدة وحالة الرفض والعناد التي تنتابها بمجرد أن تعلم أن الماضي الذي هربت منه عاد إليها، هو فيلم عن الأداء والشخصية والحوار، ليس فيلماً سردياً بالمعنى التقليدي المتعارف عليه (سبب ونتيجة)، وليس فيلماً عن مشاهد استرجاعية تملأ منتصفه قبل أن يعود إلى نقطة البداية عند نهايته، بل هو فيلم فسيفسائي، إن صح التعبير، أي إنه متداخل كثيراً في ترتيب مشاهده بمزجه الشديد بين لقطات الزمن الحالي وتلك التي تعود إلى الماضي، إلى درجة أنه يصعب أحياناً التفريق بين نوع اللقطات.

طريقة ترتيب اللقطات بهذا الشكل لم تكن سلسة، وقد تسبب بعض الحيرة للمشاهد أو تجعله يفكر قليلاً في ما لو كانت اللقطة التي يشاهدها في الزمن الحالي أو الماضي، في الوقت نفسه فإن نبرة الفيلم متوازنة جداً بسبب قصر زمن اللقطات، أي إن كل لقطة تكون لثوانٍ عدة، وإن كانت طويلة فإنها أقل من 30 ثانية. اللقطات القصيرة وظفها لونرغان كجسور للانتقال بين زمني الفيلم، أما الطويلة فوظفها لشرح سلوك الشخصيات.

المخرج الربّان

الفيلم يغوص في أعماق الشخصية من دون الوصول إلى هدف، لأن الغرض هو استكشاف وحدة (لي) وحالة الضياع التي يعيشها بسبب شعوره بالذنب لأشياء فعلها في الماضي، ولا يريد مسامحة نفسه ونسيانها، وعندما نصل إلى النهاية فهي ليست سعيدة حتماً، ولو كانت سعيدة لأفسدت الفيلم، لكن هي واقعية أكثر ومُرضية لكل الأطراف، بمن فيهم مشاهدو الفيلم. لو كان هذا الفيلم بين يدي شخص آخر لربما ذهب طي النسيان، ولمُلئ بمشاهد ميلودراما منفرة، كما يحدث في الدراما الخليجية البائسة. المخرج لونرغان صاحب الفيلم الجميل «يمكنك الاعتماد علي» عام 2000، يعلم هذه الحقيقة تماماً، وهو متمكن جداً من أدواته في هذا الفيلم، وممسك بقوة بدفة القيادة كربّان سفينة، بمجرد أن يرى موجة قادمة فإنه يعلم كيف يتجنبها أو يخفف من آثارها.

بكلمات أخرى، بمجرد أن يتجه الفيلم حتمياً نحو الميلودراما ولا مفر من ذلك في فيلم كهذا، فإن لونرغان يسحبه ويعيده إلى سكّته، وهذه النقطة فقط هي التي جعلت هذا الفيلم قوياً ومؤثراً، ولو فهم صناع الدراما الخليجية التعيسة هذا الأمر لكانت أعمالهم المفلسة تتمتع بنوع من الصدقية.

لونرغان يريد أن يروي لنا قصة رجل يعاني أزمة نفسية رهيبة، وهو يرويها بكل الأدوات المتاحة سينمائياً، ومن دون الحاجة إلى المبالغة، وهذه أيضاً نقطة مهمة لأن في حالة المبالغة (مثال: الدراما الخليجية)، فإن المشاهد يشعر بضغط نفسي لأن العمل يجبره ويدفعه إلى الدخول في حالة حزن، بينما عندما يكون الأداء راقياً فإن المشاهد تلقائياً يندمج فيه لسبب بسيط، هو أنه نفسياً يشارك الشخصية الرئيسة أحاسيسها، لأن عملية الارتباط تمت بالطريقة السليمة. وهذا يتجسد في مشهد الذروة، وهو الأهم قرب نهاية الفيلم (نتحدث عن المشهد الموجود على ملصق الفيلم)، (لي) يلتقي

  • لونرغان يريد أن يروي لنا قصة رجل يعاني أزمة نفسية رهيبة، وهو يرويها بكل الأدوات المتاحة سينمائياً ومن دون الحاجة إلى المبالغة.
  • الفيلم ليس للتسلية أو المشاهدة بعد يوم عمل متعب، أو لمن يدخلون السينما بحثاً عن مهرب من هموم الدنيا.

مصادفة بزوجته التي هجرته، ويبدأ مشهد عتاب واعتذار يحطم القلب، قوة المشهد ليست في الحوار بقدر ما هي في قوة لغة الجسد، المشهد به لمسات عبقرية تتجلى في حقيقة واحدة، هي أننا لو حذفنا الحوار منه لما أضعفه ذلك ولبقي قوياً لأن لغة الجسد تخبرنا بما يحدث. ليس هناك أي شيء مهم في الحوار أساساً، والأداء وحده كفيل بنقل مشاعر (لي) وزوجته السابقة، وبمجرد أن يقترب المشهد من الدخول في منطقة الميلودراما فإن لونرغان ينهيه فوراً وبسلاسة ومهارة لا يعلى عليهما.

يستحق «الأوسكار»

كيسي أفليك يستحق الأوسكار على هذا الدور، شاهدناه في «رحلت الطفلة رحلت» وفي «إنترستيلار»، لكن هذا الدور هو الأقوى والأفضل. أفليك يستحوذ على شخصية (لي) تماماً في كل إيماءة وحركة وكلمة منطوقة، أداء واقعي وجميل وقوي وغير مبالَغ فيه، أداء يرسخ في الذاكرة.

هذا الدور كان من المفترض أن يكون للنجم، مات ديمن، الذي انسحب بسبب خلافات، لكنه دعم الفيلم من ناحية الإنتاج، فحل أفليك مكانه. بعد مشاهدة الفيلم فإننا نقول إنه من الصعب جداً تخيل أي شخص آخر غير أفليك في هذا الدور الذي ينغمس فيه بالكامل.

تويتر